من صانع صفقات لدبلوماسي.. مبعوث ترامب يحدث تغييرا جذريا بالشرق الأوسط

قبل نصف قرن، وصل إلى بيروت شاب أمريكي بلهجة عربية متعثرة وحنين غامض إلى جذور لا يعرفها، ليبدأ رحلةً ستقوده لاحقًا إلى قلب السياسة الأمريكية، ثم تعيده إلى الشرق الأوسط سفيرًا لدونالد ترامب في أكثر الملفات اشتعالًا.
إنه توم براك، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، الرجل الذي خرج من عالم المال إلى عمق الجغرافيا المعقدة للمنطقة.
ففي عام 1972، وصل إلى بيروت لأول مرة عام 1972 دون أي اتصالات أو حجز فندقي ــ فقط لهجة عربية قديمة تعلمها من أجداده.
كان براك محامياً أمريكياً شاباً في إحدى مهماته الأولى في الخارج، وسرعان ما اختطفه سائق سيارة أجرة متحمس ليأخذه في جولة حول البلاد، بما في ذلك قرية عائلته الأصلية.
تلك الرحلة أشعلت علاقة استمرت مدى الحياة، وشهدت الآن عودة قطب الاستثمار الخاص إلى المنطقة سفيراً للرئيس دونالد ترامب إلى تركيا ومبعوثاً خاصاً إلى سوريا ولبنان.
نجاحات وجدل
وبعد خمسة أشهر من توليه منصبه، نجح براك ــ الذي يزعم بفخر أنه يتمتع بـ«تركيبة عاطفية تمثل الحمض النووي للمنطقة» ــ في تحقيق مزيج غير عادي من النجاحات والجدل.
وقد ساعدته جذوره المحلية، وارتباطه الوثيق بترامب، واستعداده النادر لانتقاد إسرائيل علناً، في تكوين علاقات قوية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والسوري أحمد الشرع.
لكن على الرغم من كونه ودوداً بشكل لا يوصف في شخصيته، فإن زلاته المتكررة ــ مثل وصفه للسلام في الشرق الأوسط بأنه «وهم» وتحذير الصحافيين في لبنان من أن يكونوا «حيوانيين» ــ دفعت النقاد إلى وصفه بأنه «متعال».
وانتقد الرجل البالغ من العمر 78 عامًا بشدة تاريخ واشنطن الحافل بالسياسات «الفاشلة»، وأكد مرارًا أن مهمته ليست التركيز على حقوق الإنسان، بل على «الصفقات» التي تحقق «الازدهار»، والتي يرى أنها «الحل الوحيد». كما يُصرّ على أن المنطقة لم تعد مسؤولية أمريكا، ويحثّ دولها على «مساعدة نفسها».
وفي تصريحات لصحيفة «فاينانشال تايمز»، قال براك: «لقد كنا ضامنين لأمن العالم منذ الحرب العالمية الثانية. لقد تغير ذلك.. كيف نبني عالمًا أفضل؟ علينا أن نجعل الجميع يعتمدون على أنفسهم».
هذا النهج خيب آمال أولئك الذين كانوا يأملون في أن يكون براك «نوعاً من المبعوث الفائق» إلى المنطقة، على حد تعبير أحد الدبلوماسيين الغربيين، قادراً على دفع حزب الله إلى نزع سلاحه والمصالحة بين أنقرة وأكراد سوريا ودمشق وسكانها الدروز.
وُلد براك عام 1947، وهو مسيحي ماروني، ويقول إنه ابن «عائلة مهاجرة لبنانية متواضعة للغاية» في لوس أنجلوس. وأضاف: «لم يكن أحد ليتوقع قط أنني سأنجح في كلية الحقوق، ناهيك عن امتياز القيام بما أقوم به».
بعد أن بدأ مسيرته المهنية محاميًا في مكتب هربرت دبليو كالمباك، المحامي الشخصي لريتشارد نيكسون، انتقل إلى وول ستريت وعمل مع قطب النفط في تكساس روبرت باس. ثم اتجه إلى مجال العقارات، مؤسسًا شركته الخاصة للاستثمار في الأسهم الخاصة.
ارتفعت شهرته بشكل كبير بعد تدبيره بيع فندق بلازا في نيويورك لترامب عام 1988 مقابل 408 ملايين دولار - وهو ثمن باهظ، كما أقرّ ترامب لاحقًا. في النهاية، اضطر الرئيس إلى إعلان إفلاس العقار وبيعه بأقل من سعره بحوالي 80 مليون دولار.
روابط وثيقة
ومع ذلك، فقد نشأت بين الرجلين رابطة وثيقة جمعت بين الصفقات والصداقة.
في عام 2010، ساعد براك صهر ترامب، جاريد كوشنر، بشراء ديون متعثرة بقيمة 70 مليون دولار تقريبًا من عقار تملكه شركة عائلة كوشنر. وعندما ترشح ترامب لأول مرة، كان براك من أكبر المتبرعين لحملته الانتخابية، وجمع مبلغًا قياسيًا آنذاك قدره 107 ملايين دولار بصفته رئيسًا للجنة التنصيب.
ويقول مقربون من براك وترامب إنه حافظ على تواصله المباشر مع الرئيس، وإن الخبير المالي المخضرم هو من القلائل الذين يطلب منهم ترامب النصيحة بانتظام. كما أنه من القلائل الذين انتقدوا الرئيس علنًا وظلوا في دائرته المقربة.
مع ذلك، ينفي براك أي تلميح إلى أنه وترامب ندان. وصرح لصحيفة فاينانشال تايمز: «كان دونالد ترامب صديقًا لي لمدة 45 عامًا. أنا أُذعن له، ولا أجادله. إنه الزعيم».
رغم عمله سفيرًا لدى تركيا، لا يقضي براك وقتًا طويلًا في البلاد، ويعود ذلك أساسًا لانشغاله بملفي سوريا ولبنان. حتى في تركيا، نادرًا ما يمكث في أنقرة، مفضلًا إسطنبول. لكن براك يقضي معظم وقته على متن طائرة.
قال دبلوماسي مقيم في أنقرة: «نادرًا ما يكون في المدينة. إنه أشبه بربان فضاء، في الجو».
ورغم أن هذا النهج غير التقليدي قد خالف الأعراف الدبلوماسية، إلا أن المسؤولين الأتراك والأمريكيين يقولون إن التعاون المؤسسي بين البلدين أعمق مما كان عليه خلال رئاسة بايدن. في الشهر الماضي، ساعد براك في التوسط لزيارة أردوغان إلى البيت الأبيض، حيث ناقش الزعيمان سلسلة من الصفقات في مجالات الطاقة والدفاع وغيرها.
لكن ربما تكون أقوى علاقة أقامها براك هي تلك التي نشأت مع الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي يُنسب إليه الفضل في المساعدة في حشد الدعم العالمي لإدارته الجديدة ورفع العقوبات الأمريكية على البلاد.
قال براك: «بدا لي أنه من الضروري منح الشرع فرصة. لا يمكن خلق الرخاء أو الأمل لدى الناس إلا بإشعال فتيل الأزمة».
السؤال المركزي هو ما إذا كانت علاقة براك بترامب، وعقليته في عقد الصفقات، وتراثه المحلي يمكن أن تبدأ في حل القضايا الإقليمية المستعصية التي قال إنها تسبب له «صداعًا شديدًا».
تقول «فايننشيال تايمز»، إنه مقارنةً بكونه خبيرًا ماليًا، فإن دوره «يتطلب جهدًا أكبر بمئة مرة... أكثر إثارة للاهتمام فكريًا بمئة مرة، وأكثر رعبًا جسديًا بمئة مرة»، كما قال.
وقال براك أيضًا إنه يدرك أن نهجه مشبع بالحنين إلى الماضي، وهو «حذر للغاية منه»، وبدلاً من ذلك يستغل هذه الحساسية ليقول لمنتقديه: «لا يمكنك استخدامي كما استخدمت أي شخص آخر خلال السنوات الخمسين الماضية».
انتقاد إسرائيل
من نواحٍ عديدة، لدى براك نظرة متشائمة للمنطقة. قال: «في نهاية المطاف... جميعنا، جميع الناس العاديين على الأرض، نريد السلام. لكن هل هذا حقًا ما يتجه إليه الكون؟ على الأرجح لا».
لقد دفعته الوقائع الميدانية إلى التراجع عن مواقفه السابقة. فقد تباينت مواقفه بشأن التشدد مع حزب الله. وفيما يتعلق بسوريا، قال في يونيو/حزيران إنها يجب أن تكون دولة مركزية قوية، مُلبيًا بذلك الرغبات التركية. ومع ذلك، بعد شهرين، أوصى بـ«ما يشبه» الفيدرالية.
ومن بين المجالات التي أوضح فيها براك إملاءاته بشكل واضح هي إسرائيل، قائلا إنّ «مهاجمة تل أبيب للجميع تُشكّل مشكلة»، وإنّه لا يثق بحليف الولايات المتحدة التقليدي. أثارت تصريحاته انتقاداتٍ وعرقلةً من المؤسسة المؤيدة لإسرائيل في واشنطن. ودعت لورا لومر، الناشطة المؤثرة في حركة «ماغا»، إلى إقالته.
ومع ذلك، فإن براك، الذي يتسم دائماً بعدم التقليدية، يرى أيضاً أن إسرائيل ــ وقدرتها على التوسط في تحقيق الانفراج مع جيرانها ــ جزء لا يتجزأ من الاستقرار الإقليمي.
وربما أصبح هذا الاحتمال أقرب إلى الواقع هذا الشهر مع خطة ترامب للسلام في غزة، وبالتالي حلم براك بشرق أوسط «أفضل قليلا مما كان عليه عندما وجدته».