يعيش العالم العربي منذ سنوات عدة مرحلة عالمية وإقليمية مليئة بالتغيرات المهمة التي تطرح تحديات جسيمة على كل من المجتمعات والدول
هذا هو العنوان الذي اختارته مؤسسة الفكر العربي ليكون موضوعا لمؤتمرها السنوي فكر 17 الذي يبدأ أعماله الإثنين المقبل بمدينة الظهران بالمملكة العربية السعودية. ويشارك فيه مثقفون وباحثون وأساتذة جامعات من مختلف الدول العربية، إلى جانب بعض المتحدثين من دول أخرى كفرنسا والصين وغيرها.
والدعوة إلى مراجعة المنظومات الفكرية السائدة في مجتمع ما عادة ما تكون في مراحل الانتقال الاجتماعي والشعور بأنها لم تعد قادرة على الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها التغيرات والأوضاع الجديدة. ومن هنا، تظهر الحاجة لمراجعتها وتعديل بعض جوانبها والإضافة عليها. عاشت المنطقة العربية مثل هذه الظروف مع نهاية القرن التاسع عشر وتدهور أوضاع الدولة العثمانية، ثم سقوطها وتبلور الموجة الأولى من استقلال الدول العربية، وعاشتها مرة أخرى في بداية الخمسينيات من القرن العشرين مع نكبة فلسطين وحدوث عدد من الانقلابات العسكرية، ونشأة أشكال جديدة من نظم الحكم. وفي المرتين، حدثت مراجعات فكرية نقدية وأطروحات مغايرة.
بناء على هذا التشخيص والتقييم، وإدراك الهُوة التي تفصلنا عن المسارات الرئيسية في الفكر الإنساني، فإن القضايا المطروحة على المشاركين في المؤتمر عديدة ومتنوعة منها مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، والحقوق الدستورية للمواطنين.
يعيش العالم العربي منذ سنوات عدة مرحلة عالمية وإقليمية مليئة بالتغيرات المهمة التي تطرح تحديات جسيمة على كل من المجتمعات والدول، وتفرض عليها إعادة التفكير.
أول هذه التغييرات، الثورة العلمية والتكنولوجية أو الثورة الصناعية الرابعة فنحن نعيش في عالم تسارعت خُطاه وحركته بل أصبحت سُرعة التغيير هي إحدى سمات الواقع المُحيط بنا. وأدى ازدياد وتيرة هذه التغيرات الى اتساع مساحة "اللايقين" وعدم التأكُد بشأن التداعيات والآثار السياسية والاجتماعية لتلك التغيرات. ويحدُث ذلك تحت وطأة التقدم المذهل في تقنيات الاتصال عن بُعد التي أسقطت الحدود بين الدول والقارات ويسرت التفاعلات اللحظية بينها. وهو ما دفع المفكر الفرنسي "بول فليريو" في كتابه "تحرر السُرعة" إلى القول إن حدود المكان تتلاشى وأن الزمان يحل محل المكان. هذه الثورة تُدشن لعصر جديد يقوم على "الرقمنة" والذكاء الاصطناعي.
وثاني هذه التغييرات هو التطور في شكل النظام العالمي والتوازنات بين الدول والقوى الكبرى، والانتقال التدريجي لموارد الثروة والنفوذ من الغرب إلى الشرق. لعل العلامة الكبرى لهذا التطور هو الصعود الاقتصادي الصيني، فخلال أربعة عقود انتقلت الصين من وضعها كإحدى الدول النامية إلى مزاحمة الولايات المتحدة على القمة الاقتصادية للعالم وشغلت المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي.
وثالث هذه التغييرات هو ما شهدته البلاد العربية من عام 2011 حتى الآن من انتفاضات شعبية واضطرابات سياسية وحروب أهلية وانقسامات عرقية طائفية وتدخلات خارجية أدت إلى تغيير نظم الحكم فيها أو أدخلتها في أتون صراعات داخلية لا تزال مستمرة حتى الآن. ويكفي الإشارة إلى أن الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان استمرت على مدى أسابيع.
لقد أصبح من الواضح أن الأفكار التي نشأت في القرنين التاسع عشر والعشرين في ظروف مختلفة لم تعد ملائمة بالضرورة الآن، كما لم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة الحاضر وتحديات المستقبل، وتعرضت النظريات والأيديولوجيات الكبرى كالليبرالية والاشتراكية والمحافظة والراديكالية لمُراجعات عميقة لمسلماتها وافتراضاتها على المستوى العالمي، وشارك في هذه المراجعات مفكرون أوروبيون وصينيون وأمريكيون وهنود وعرب وأفارقة.
وشملت المراجعات للفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي إعادة النظر في كثير من المفاهيم المتداولة مثل الدولة والسيادة والشرعية والسُلطة والمُشاركة، فقد تأكد الجميع أن عليهم إعادة تعريف الأفكار والمفاهيم السائدة في ضوء التطورات الفعلية الحادثة وطرح مضامين وحلول جديدة للتعامل مع أسئلة ومشكلات جديدة.
ونقطة البدء في أي نقاش جاد حول هذا الموضوع هو تشخيص وتقييم حالة الفكر العربي المعاصر، وذلك بهدف تحديد أهم سماته وخصائصه. إذ ينتشر الرأي أن هذا الفكر قد اتسم في النصف الثاني من القرن العشرين بالانكفاء والتمحور حول الذات، وعدم رغبة أنصاره أو عدم قدرتهم على المراجعة العميقة لمسلمات هذا الفِكر ومنطلقاته، واكتفائهم بإعادة إنتاج الأفكار والمعاني في ألفاظ وعبارات جديدة، أي أن التجديد جاء في الشكل وليس الجوهر، وفي المظهر وليس المضمون. فما مدى صحة هذا الرأي؟ وما هي العوامل التي قيدت أو حالت دون تجديد الفكر العربي في الجوهر والمضمون؟ وما هي العوامل الأخرى التي تُساهم في الإسراع بعملية تجديد الفكر وتنمية الفكر النقدي الخلاق؟
وبناء على هذا التشخيص والتقييم، وإدراك الهُوة التي تفصلنا عن المسارات الرئيسية في الفكر الإنساني، فإن القضايا المطروحة على المشاركين في المؤتمر عديدة ومتنوعة منها مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، والحقوق الدستورية للمواطنين في هذه الدولة ونظم إنفاذها وحمايتها ومحاسبة المتجاوزين والمعتدين عليها.
فالهدف هو بناء دولة المواطنة، وهو المفهوم الذي ظهر في ارتباط وثيق مع تبلور الدولة الوطنية الحديثة التي نقلت الناس من "رعايا" للحاكم إلى "مواطنين" في الدولة، وتُنظم القوانين واجباتهم وحقوقهم وحرياتهم، والقواعد المنظمة للعلاقات التي تجمعهم ببعضهم أو بينهم وبين مؤسسات الدولة. ولا يزال مبدأ المواطنة يثير لغطا لدى أنصار الأفكار الجامدة والخاطئة التي تقيم تعارضا مزعوما بين المواطنة والإسلام، وبين الدستور والقرآن الكريم.
ويرتبط بقضيتي الدولة الوطنية الحديثة والمواطنة موضوع ثقافة التسامح وقبول التعددية الثقافية والسلم الاجتماعي، إذ تُعاني المجتمعات العربية من انتشار أفكار الغلو والتشدد والتطرف المُنغلقة على ذواتها، ثُم تَمثُلها في شكل تنظيمات ومليشيات مسلحة تمارس العُنف والإرهاب وتحارب التفكير واستخدام العقل. في هذا السياق، فإن الهدف من المراجعة والنقاش هو ليس فقط تفنيد هذه الأفكار ودحضها، وإنما فهم وتفسير عوامل استمرارها رغم مخالفتها الصريحة والواضحة لمبادئ الدين الحنيف، والبحث عما يوجد في نظمنا الاجتماعية والتعليمية والتربوية ما يؤدى إلى ذلك. وأيضا، فهم العوامل التي تؤدي إلى تعميق قيم قَبول التعددية والتسامح مع الآخرين المُختلفين، والتعامل مع الإنسان باعتباره إنسانا والبحث عن القواسم المشتركة بين كُل البشر على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، واعتبار ذلك ضرورة لتحقيق السلم الاجتماعي.
ومنها، قضية العلاقات العربية العربية وكيفية زيادة التعاون بين الدول العربية، فرغم الإخفاقات والإحباطات السياسية، ظَلت العروبة والانتماء الثقافي العربي حاضرين لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية من خلال اللغة والثقافة والإعلام. والمطلوب هنا البحث عن أفكار مُبتكرة لتحقيق التعاون العربي بين الدول والحكومات، أو على المستوى الشعبي بين سائر الهيئات والمؤسسات الاجتماعية.
والدعوة إلى تجديد الفكر العربي هي دعوة قديمة - جديدة وأشيرُ هُنا إلى الكتاب الذي أصدره د. زكي نجيب محمود بعنوان "تجديد الفكر العربي" وصدر في القاهرة عام 1971. وأتوقفُ أمام عبارتين مُهمتين وردتا في هذا الكتاب: الأولى يقول فيها: إن الأصل في الفكر - إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم - هو أن يكون حوارا بين "لا" و"نعم" وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكرا ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكرا، ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد".
والثانية تقول: "لسنا نفاضل بين منظومتين فكريتين على أساس الصواب والخطأ، لأن كلا منهما مبنية على مبدأ والمبدأ فرض والفرض لا يوصف بصواب وخطأ، وإنما تكون المفاضلة بينهما على أساس النفع للإنسان في حياته، فقد تكون إحدى المجموعتين رغم صواب الاستدلال فيها قليلة النفع عند التطبيق في حياة الإنسان العملية، وقد تكون زميلتها غزيرة النفع عند التطبيق العملي، فعندئذ تكون هي أولى بالتفضيل والاختيار".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة