الروائي الأردني جلال برجس يتذكر حكايات جده ومأذنة رمضان: ولعت المنارة
"المنارة ولعت" عبارة خالدة لدى الأردنيين في شهر رمضان، والروائي الأردني جلال برجس يكشف سرها لـ"العين الإخبارية".. ماذا قال؟
كثيرا ما ارتبط شهر رمضان بفضاءات روحية يقصدها الناس، غير أن مقاصد الأدباء تبدو مختلفة؛ لأن المكان معهم يتحوّل إلى فضاء إبداعي وملجأ روحي ومساحة للتجلي.
لا يقتصر شهر رمضان على انغماس الإنسان في الطاعات والأعمال الروحانية ومحاولات الوصول لأقصى درجة من الصفاء فحسب، وإنما كذلك يرتبط في أذهان الجميع بذكريات لا تُنسى، ومواقف تظل عالقة في الذاكرة، مهما مضى عليها الوقت لا تفقد أثرها أبدا، ومع مرور السنوات يبقى الحنين إليها وإلى استعادتها متأججا باستمرار، تتمنى لو أن أحدهم طلب منك أن تحكي شيئا لتسهب في حديث لا يتوقف عن ذكريات خلت.
ويقول الروائي الأردني جلال برجس لـ"العين الإخبارية" عن ذكرياته مع الشهر الكريم إن كل شيء في رمضان قديما كان بكرا طريا؛ دون محسنات تُفقد المعنى الحقيقي للحظة.
ويضيف: "كان الطعام بسيطا لكنه لذيذ. الشراب كان ضد العطش ببسالة لا نجدها الآن. العائلة كانت جَمعا أليفا إلى حد الانصهار. في أول الوعي كنت أرى الناس من حولي في القرية يمتنعون عن الطعام منذ الصباح حتى خلود الشمس وراء الجبل. في البدء كنت أسمع فتية القرية يغنون قبيل الإفطار بقليل (ولَّعت المنارة، ولَّعت المنارة) كإيذان بالإفطار، ولم أكن أدري أن المنارة هي ذلك الضوء الذي يشتعل برأس مئذنة (مسجد الملك طلال) التي ترتفع في سماء مدينة مادبا، المدينة التي تقع بها قريتي (حنينا) على حدودها، مدينة بقيت لسنين أجلس على ربوة في القرية أحدق بها، وأحلم بي أمشي في شوارعها".
وأضاف صاحب رواية "سيدات الحواس الخمس": "(ولَّعت المنارة، ولَّعت المنارة) عبارة ظلّت ترن في مسامعي وأنا أجلس كل يوم على الربوة أنتظر بخوف أن تشتعل المنارة برمتها، إلى أن تقتادني أمي من يدي إلى مائدة الإفطار، وأنا أقول لها بتوسل (خليني شوية أشوف المنارة). بقيت تلك الصورة في مخيلتي إلى أن زرت (مادبا) بمعية جدي الذي ما إن ربط فرسه في ذلك اليوم قرب الفرن الذي يقابل المسجد حتى رحت أشد ثوبه ورأسي يعود إلى الوراء وعيناي تنظران إلى الأعلى نحو رأس المئذنة (جدّي جدّي، كيف المنارة تولع كل يوم وبعدها مثل ما هي ما وقعت). حينها ضحك جدي وربت على كتفي (المنارة يا وليدي تولع بالليل حتى نشوفها). ثم أشار ضاحكا إلى المئذنة (تولع كل يوم وما تقع. شايف كيف؟). بعد زمن وحينما أصابتني لوثة القراءة أدركت أن جدّي شاعر بالفطرة، وأدركت معنى الذاكرة".
ويرى برجس أنه لا شيء مهم كالذاكرة التي لولاها لمتنا ونحن نمشي على قدمين لا تدركان إلى أين تذهبان، ومن الذاكرة تجيء تفاصيل شهر رمضان، هذا المجيء الذي ينتصر للماضي ويرفض الحاضر. ولا شيء في الذاكرة ما هو أهم من زمن الطفولة الذي ما انفك عن الانتصار للحياة البكر.
aXA6IDEzLjU4LjIwMC43OCA= جزيرة ام اند امز