نجاح بايدن في تحقيق ما لم يحققه ترامب ربما سوف يكون سلاحه السياسي الأول للتعامل مع واقع أمريكي منقسم.
لن يجد المؤرخون صعوبة في تحديد اللحظة التي وصل بها دونالد ترامب إلى نقطة النهاية كممثل للولايات المتحدة في العلاقات الدولية. اللحظة كما رصدتها مصادر كثيرة كانت بعد ١٣ دقيقة من بدء مؤتمر قمة مجموعة العشرين الافتراضية وسط الاستعداد لعشرات القضايا التي تهم البشرية والتي أدارتها بمهارة شديدة المملكة العربية السعودية، وفي لحظتها بدأ الرئيس الأمريكي في إرسال تغريداته المعتادة حول الانتخابات الأمريكية، وفي ٢٣ نوفمبر الجاري وصفت "الواشنطن بوست" الموقف: "لا ينتهي دور الرئيس ترامب على المسرح العالمي بضجة أو تذمر، بل بإغلاق نافذة متصفح". وكانت الجارديان البريطانية قد ذكرت أن ترامب أخبر القادة المجتمعين أنه يتطلع إلى العمل معهم "لفترة طويلة"، على الرغم من أن معظمهم كان قد هنأ الرئيس المنتخب جو بايدن على فوزه في الانتخابات. وصف خطابه المختصر حول الوباء قوة الجيش والاقتصاد الأمريكيين ودور إدارته في المساعدة على التوصل إلى لقاح. في اليوم التالي وفي اجتماع بشأن تغير المناخ والبيئة، قال ترامب إن "اتفاق باريس لم يكن مصمما لإنقاذ البيئة". "لقد تم تصميمه لقتل الاقتصاد الأمريكي." بعد ما يقرب من أربع سنوات من ولاية ترامب، كانت قمة العشرين تمثل آخر مشاهداته الدولية من ناحية، ولكنها أيضا كانت تمثل من ناحية أخرى الدبلوماسية متعددة الأطراف في أرفع مستوياتها تعبيرا عن التعامل مع الاحتياجات العالمية المعاصرة. وأيد البيان الختامي للقمة تقوية منظمة الصحة العالمية وتعزيز التنسيق العالمي الشامل.
لم يكن ترامب أبدًا من المعجبين بالدبلوماسية متعددة الأطراف، وحتى في لحظاته الأخيرة انسحبت الولايات المتحدة رسميًا من معاهدة الأجواء المفتوحة، وهي اتفاقية عمرها ثلاثة عقود تقريبًا بين الغرب وروسيا سمحت برحلات استطلاعية غير مسلحة فوق أراضي الطرف الآخر. تمت صياغة الاتفاقية لتقليل مخاطر نشوب حرب عرضية، لكن إدارة ترامب جادلت بأن روسيا كانت تنتهكها. وينفي الروس الاتهام، بينما انتقد الرئيس المنتخب بايدن ومجموعة من مسؤولي الدفاع الأمريكيين السابقين قرار ترامب بإلغاء الاتفاق. وجعل من الصعب على إدارة بايدن عكس هذه الخطوة، بدأت إدارة ترامب في تصفية معدات القوات الجوية الأمريكية المستخدمة بموجب شروط المعاهدة. ولعل قضية المفاوضات الدولية متعددة الأطراف هذه سوف تكون أول ما سوف يسعى إليه جو بايدن عندما يصل إلى البيت الأبيض كما هو مقرر في العشرين من يناير. فالرجل قدم لحزمة من الالتزامات الدولية للولايات المتحدة بالعودة إلى منظمة الصحة العالمية، والعودة مرة أخرى إلى اتفاقية باريس الخاصة بالتغيرات المناخية ومقاومة الاحتباس الحراري، وربما أيضا سوف يعيد النظر في الانسحاب الأمريكي من الشراكة الباسفيكية التي سوف تضعه مع روسيا والصين في قارب واحد ذا طبيعة اقتصادية تزيل الكثير من التوتر.
ولكن ربما لا يزال الوقت مبكرا للحديث عما سوف يفعله بايدن تحديدا في أيامه الأولى. وكان الرئيس فرانكلين روزفلت هو الذي صك تعبير "المئة يوم الأولى" الذي صار شائعا في الحديث عند تولي إدارات مختلفة سواء في أمريكا أو خارجها حول ما سوف تقوم به، أو تبدأ القيام به، بمجرد توليها للسلطة. الأمر فيه بعض من التأكيد على قدرة اتخاذ القرارات الصعبة، والسرعة في إعلان أن ما سوف يبدأ سيكون مختلفا في كثير أو قليل مما سبق. المؤكد كما يظهر من تصريحات بايدن والعاملين معه، وهؤلاء الذين وضعهم في طاقم العاملين سواء في إدارة البيت الأبيض أو في مجموعة السياسة الخارجية والأمن القومي، أنه يريد عكسا تاما للاتجاهات التي تبناها دونالد ترامب. ولكن الرئيس الجديد لن يمكنه فعل ذلك إلا من خلال التعامل مع ملفات ملحة ولا تستطيع الانتظار وفي مقدمتها ملف الفيروس التاجي الذي لا يزال يضرب بقوة حققت ٨٨ ألف إصابة يومية بالولايات الأمريكية المختلفة. بايدن بدأ الاستعداد لهذا الملف خلال فترة الحملة الانتخابية، وبعد فوزه وحتى قبل تسليم ترامب بهذه الحقيقة، فإنه شكل لجنة قومية من اثني عشر عضوا لكي تتعامل مع الوباء وتوابعه؛ وفي الأيام الأخيرة ورغم وجود رئيس لا يزال في البيت الأبيض، فإن بايدن بدأ في الحديث المباشر مع الشعب الأمريكي مطالبا إياه بالبقاء في المنازل خشية الإصابة بالمرض إبان إجازة "عيد الشكر" التي اعتاد فيها الأمريكيون السفر ولقاء ذويهم في تجمعات احتفالية. ولكن تلافي الإصابات وتقليل الوفيات هي مجرد قمة جبل الثلج لأزمة الكورونا المستحكمة حيث بات على بايدن التعامل مع التداعيات الاقتصادية لانتشار فيروس كورونا، حيث جاءت هذه القضية كانتقاد رئيسي من "بايدن" للسياسات التي اتّبعها "ترامب". إلى جانب تصدر ملف الاقتصاد والبطالة قائمة الأولويات لدى الناخب الأمريكي وفق استطلاعات الرأي التي أجراها مركز "بيو" للدراسات منذ أغسطس ٢٠٢٠.
قضية "كورونا" وتوابعها لها مهمة سياسية لا تقل أهمية عن تلك الصحية والاقتصادية بالنسبة لبايدن نظرا لأنها بالفعل هي القضية الأولى على مائدة المواطن الأمريكي والتي ربما كانت هي الفيصل التي جعلت المواطن الأمريكي يميل في النهاية إلى انتخاب المرشح الديمقراطي بعد أن وجد أن الرئيس الجمهوري لم يتعامل بالشكل المطلوب مع الأزمة. نجاح بايدن في تحقيق ما لم يحققه ترامب ربما سوف يكون سلاحه السياسي الأول للتعامل مع واقع أمريكي منقسم وممزق وفاقد الثقة في النخبة السياسية، ومع ذلك أعطاها ما يشبه الفرصة الأخيرة بالإقبال على التصويت الذي كان حاسما في النهاية لصالح الديمقراطيين. وفي هذا فإن بايدن لن يستطيع إغفال حقائق سياسية لا يمكن إنكارها، فرغم أنه حاز على أعلى الأصوات الشعبية في التاريخ الأمريكي بقدر يقارب ٨٠ مليون صوتا، فإنه لا يستطيع إغفال أن ترامب قد حصل على ما يقارب ٧٥ مليون صوتا. بايدن لا يمكنه تجاهل أنه حتى بين الأقليات فإن الأقلية اللاتينية التي كان يعول عليها الديمقراطيون الأمريكيون لإحداث انقلاب طويل المدى في التوازن الانتخابي لصالحهم بالطبع، صوت ٣٢٪ منها لصالح ترامب لسبب لا يمكن تجاهله وهو أن الأمريكيون من أصول مكسيكية أو لاتينية في العموم تدين بالمذهب الكاثوليكي الذي يرفض الإجهاض وزواج المثليين الذي يوافق عليه الديموقراطيون.
الأيام الأولى لبادين لن تكون سهلة رغم الأغلبية الكبيرة التي حصل عليها، فإذا ما تم تمكن الجمهوريون من تحقيق الأغلبية في مجلس الشيوخ بعد انتخابات الإعادة في ولاية جورجيا في الخامس من يناير القادم، فإن مزيدا من العقبات سوف تقف في طريقه للسير قدما في العمل من أجل وحدة الأمريكيين من خلال مشروع قومي كبير لإعادة بناء البنية الأساسية الأمريكية. وللأمر تفاصيل كثيرة سوف يأتي وقتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة