قد يبدو مبررا أن يولد اليسار الشعبوي في بلاد العم سام التي يشعر فيها أبناء الأقليات بنوع من عدم المساواة مع البيض.
معركة الانتخابات الأمريكية المستمرة إلى ما بعد إعلان نتائجها تتجاوز حدود الولايات المتحدة. ليس فقط في تأثير السياسات الداخلية والخارجية الأمريكية على جميع الدول، وإنما أيضاً في انعكاسات المواجهة التي يخوضها اليسار الشعبوي مع نظيره اليميني على مسار الصراع التقليدي بين التيارين.
فوز ترامب في عام 2016 ألقى بظلاله على جميع الدول التي يحاول فيها اليمين الشعبوي الوصول إلى السلطة. وقد قدم نصره دفعة قوية لأنصار هذا التيار ومكنهم من إحراز تقدم ملموس في أماكن عدة، وخاصة على امتداد القارة الأوروبية التي تحول فيها الشعبويون إلى قوة حقيقية خلال العقد الثاني من الألفية الجديدة.
صحيح أن هناك أسباب أخرى لتمدد الشعبويين حول العالم خلال السنوات العشر الأخيرة، ولكن أياً كانت هذه الأسباب فقد تضاعف تأثيرها مع وجود ترامب في البيت الأبيض لأربع سنوات متواصلة. وتحت كنف شعار "أمريكا أولاً"، اشتد عود كل دعوات اليمين لتفضيل الهوية "العرقية" على الوطنية والقومية والعالمية.
من العوامل البارزة لتمدد الشعبوية، يأتي اتساع رقعة الإرهاب الإسلاموي، وتدفق أعداد مهولة من اللاجئين والمهاجرين إلى دول الغرب عموماً. ولأن ترامب هو من قاد الحرب على الإرهاب، وكان أكثر الزعماء صرامة في التعامل مع الهجرة غير الشرعية إلى بلاده، أصبح قدوة ومثالا يحتذى من اليمين المتطرف.
إنجازات ترامب في محاربة الإرهاب و "حماية الحدود" لن ينساها العالم سريعاً، بسلبياتها وإيجابياتها. يصعب على الوافد الجديد إلى البيت الأبيض تجاهل ما فعله السلف، وما يريده أنصاره، فلعل "الترامبية" باتت مرادفا حقيقياً للشعبوية، وقد اختارها أكثر من خمسة وسبعين مليون أمريكي خلال انتخابات الرئاسة الأخيرة.
لاشك أن ترامب بوصفه أيقونة اليمين الشعبوي، أثار قلق اليسار العالمي بكل توجهاته من الوسطية إلى الحدة. ولا نبالغ بالقول إن أكثر الجبهات شراسة في حرب انتخابات الرئاسة الأمريكية اليوم، هي معركة اليسار الشعبوي مع نظيره اليميني، وكلاهما لا يقل تطرفاً عن الآخر، ولا يمثل حالة صحية أو طبيعية أبداً.
فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن في الانتخابات هي المعركة الثانية الرابحة لليسار الشعبوي بعد الوصول بالرئيس السابق باراك أوباما إلى البيت الأبيض في ولايتين متتاليتين عامي 2008 و2012. ولكن القتال من أجل فوز بايدن يبدو وكأنه أم المعارك بالنسبة لهذا اليسار، والبلاد بعده لن تكون كما سبقه أبداً.
في المواجهة بين بايدن وترامب، ظهر اليسار الأمريكي الشعبوي بوضوح أكثر، وعبر عن نفسه بجرأة أكبر. وإن ثبت فعلاً وقوع عمليات تزوير خلال الانتخابات الأخيرة، مهما كانت ضئيلة وغير مؤثرة في النتيجة، فهي تسجل ضمن "انجازات" هذا اليسار، وستصبح ظاهرة تلازم هذا الاستحقاق كل أربع سنوات.
وكما كان فوز ترامب في 2016 ملهما لليمين حول العالم، فإن وصول بايدن إلى البيت الأبيض سيشكل دفعة قوية لليسار في الغرب. سيشحذ نصره همم جميع أطياف هذا الفكر بشكل مباشر وغير مباشر، وستكبر معه أحلام اليساريين الشعبويين لحدود يصعب التنبؤ بها مستقبلا، ولكنها محدودة اليوم بسقف معين.
لا يستطيع اليساريون الشعبويون التقارب مع الأفكار الشيوعية التي قد تثير حفيظة مذاهب الوسط والاعتدال في اليسار. كما يتوجب عليهم تجنب الأفكار الدينية التي تخالف المعتقدات المدنية لداعميهم وأنصارهم من ناشطي الحقوق والحريات. كذلك الابتعاد عن الاشتراكية التي تخيف أصحاب المال والأعمال في المجتمع.
قد يبدو مبررا أن يولد اليسار الشعبوي في بلاد العم سام التي يشعر فيها أبناء الأقليات بنوع من عدم المساواة مع البيض، ولكن هل طروحات هذا التيار تدور فقط حول الوحدة الوطنية وإلغاء أشكال التمييز بين الأمريكيين، أم أن الأمر يتجاوز حقوق الإنسان ويمتد إلى مطالب سياسية داخلية وخارجية لا دخل لها بالمواطنة؟
ثمة شواهد على التمييز العنصري في الولايات المتحدة، ومن المشروع والمحق أن يطالب الأمريكيون بتجفيف منابعه والقضاء على أشكاله. ولكن هل يقتضي هذا إلغاء الشرطة؟ هل يلتقي مع وقف اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط؟ هل يعني فتح الحدود دون رقابة؟ هل يشترط إزالة حكومات وهدم دول حول العالم؟
لا أحد ينكر على نواب أمريكيين مثل إلهان عمر ورشيدة طليب حق الكفاح من أجل تعزيز قيم الحريات والمساواة في بلادهم، ولكن هل دعم جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية جزء من هذا الكفاح؟ وهل تحريض الإدارة الأمريكية الجديدة على معاداة دولة أو دعم أخرى في الشرق الأوسط يفيده في شيء؟
ولأن عالم السياسة يقوم على المقايضة في المصالح، والولايات المتحدة من أكثر البيئات ملائمة لهذه المقايضات، يصبح إغفال الأبعاد السياسية وراء المطالبات الحقوقية والأخلاقية لليسار الشعبوي، بمثابة محاولة لتضليل الرأي العام وتحريف الحقائق، يشارك فيها كثيرون داخل أمريكا وخارجها، وعلى مستويات عديدة.
لقد أدخل فوز المرشح الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة البهجة إلى قلوب دول وجماعات وساسة واقتصاديين كثر خارج حدود الولايات المتحدة. هم في غالبيتهم الساحقة لا يواجهون العنصرية حول العالم، وإنما يتطلعون إلى دعم اليسار المنتصر لقضاياهم التي لا تهم الأمريكيين ولا تؤثر حقيقة على حياتهم.
هناك جهات خارجية عديدة التقت مصالحها مع اليسار الأمريكي في أم معاركه مع اليمين. من بينها دول أوروبية أرادت فقط التخلص من ضغوط ترامب على ميزانياتها ومصالحها، ومنها التي أرادت أن يعود اليسار إلى المشهد السياسي في الغرب بعد سلسلة هزائم شهدها في أماكن عدة خلال السنوات الخمس الماضية.
لم تعد المنافسة طبيعية بين اليسار واليمين في أمريكا والعالم أجمع. ثمة حالة هجينة وغير متجانسة بلغها كل تيار، باتت تثير تساؤلات عدة حول الاتجاهات المقبلة للسياسة العالمية. لقد غيرت الشعبوية محددات الصراع التقليدي بين الفكرين إلى الأبد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة