تركيا.. حزب باباجان خطوة نحو تفكيك سلطة أردوغان
خلق تصاعد الممارسات السلطوية خوفا حقيقيا وأتاح فرصا لمضاعفة هذا الخوف عبر خطاب شائع يهدف إلى توسيع نطاق قبول تخوين المعارضين الأتراك.
تمر تركيا بلغط غير مسبوق بفعل سأم المجتمع من تراجع أداء حزب العدالة والتنمية على كافة المستويات، إضافة إلى هيمنته على مفاصل البلاد، فهو الذي يحدد القسمات الرئيسية للسياسة التركية.
ويرتبط ذلك بحالة هستيرية لتخوين المعارضين، وتوزيع اتهامات بالجملة على المخالفين لتوجهات الرئيس التركي، بمن فيهم جيل المؤسسين للعدالة والتنمية.
وقد خلق تصاعد الممارسات السلطوية خوفا حقيقيا وأتاح فرصا لمضاعفة هذا الخوف عبر خطاب شائع يهدف إلى توسيع نطاق القبول العام بتخوين المعارضين، ويحط من شأن الحقوق والحريات بدعوى أنها تتعارض مع متطلبات تحقيق الاستقرار المجتمعي.
في هذا السياق العام، تصاعدت الانقسامات السياسية في البلاد، وتعرض حزب العدالة والتنمية لأزمة أدت إلى انقسام أجنحته، وخروج بعض قيادته في الصدارة منهم أحمد داود أوغلو وزير الخارجية السابق، وعلي باباجان نائب رئيس الوزراء الأسبق المسؤول عن الاقتصاد والعضو المؤسس في الحزب.
توجه باباجان لتأسيس حزب سياسي جديد، لسد الفراغ في الحياة السياسية التركية التي أصبحت تعاني الضمور.
ونالت خطوته تأييد قطاعات واسعة من السياسيين، وشخصيات بارزة من الأوساط الأكاديمية، إضافة إلى عدد من البيروقراطيين الاقتصاديين الذين يتطلعون للمشاركة في إصلاح المشكلات الاقتصادية في تركيا.
الحضور السريع لـ"باباجان" في المشهد السياسي، والتفاف قطاعات شعبية كبيرة حوله حزبه "الأمان"، يشكل تحدياً كبيراً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث تنذر خطوة باباجان بإمكانية تفكيك العدالة والتنمية، لا سيما مع توجه داود أوغلو وآخرين لتبني خطوة مماثلة.
أردوغان.. تصاعد الخوف
عديدة هي الأسباب والدوافع التي تكمن وراء تنامي خوف الرئيس رجب طيب أردوغان من ظهور حزب باباجان، أولها؛ أن علي باباجان كسب شهرة كبيرة كمهندس للتجربة الاقتصادية التركية لسنين.
فقد ساهم "باباجان" في إصلاح الوضع الاقتصادي بالبلاد بعد سنوات من الأزمات الاقتصادية التي عانتها الدولة التركية.
فعودة مهندس الاقتصاد التركي في اللحظة الراهنة تثير مخاوف أردوغان، حيث يزداد يوماً بعد يوم الوضع المأزوم للاقتصاد التركي، خاصة مع اتساع عجز الميزان التجاري، وتدهور قيمة العملة المحلية، وصعود معدلات التضخم.
كما تضررت البنوك التركية بشدة من ارتفاع حجم الديون المتعثرة والمشكوك في تحصيلها، وطلبت مجموعة من الشركات المدنية إعادة جدولة ديونها، وتلقت البنوك حتى مايو الماضي ديونا قيمتها 28 مليار دولار في أعقاب تراجع سعر صرف الليرة.
والأرجح أن قطاعات معتبرة في الداخل التركي ترى في باباجان فرصة لتحسين أوضاع الاقتصاد المأزوم، فالرجل خلافاً للرئيس أردوغان يدير الاقتصاد وفقاً لقواعده العلمية، وليس بناءً على المفاهيم الدينية، ناهيك عن كونه شخصا موثوقا به لدى المؤسسات الدولية.
ويرتبط السبب الثاني؛ بقدرة باباجان على جذب كتل سياسية ونيابية، فقد كشفت وسائل إعلامية عشية الإعلان عن إطلاق حزب "الأمان"، عن نية 40 برلمانيا منتمين للحزب الحاكم الانضمام إلى باباجان.
كما يحظى بثقة مجتمعات الأعمال التي لا تخفي قلقها بشأن هشاشة اقتصاد تركيا، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير كبير في الأوزان السياسية الحزبية لغير صالح العدالة والتنمية.
خلف ما سبق، يدرك أردوغان أن تسويق مبررات جديدة للتحايل على حالة الاحتقان السياسي والانقسام المجتمعي الذي تعيشه البلاد منذ ما يقرب من ستة أعوام، بدءاً من الترويج لنظرية المؤامرة، ومروراً بإلقاء اللوم على الغرب، وانتهاء بتشويه أصدقاء الأمس لم تعد تفلح في تعويض خسارته.
ولذلك يرى ضرورة وأد طموحات باباجان والتخلص منه، فظهوره مجدداً يعني إحداث مزيد من التشققات في حزبه، ويعطي تصوراً بأن سلطات العدالة والتنمية تتناقص.
والواقع أن هذه الخطوة كان لها بالغ الأثر على الحزب الحاكم الذي يعاني انشقاقات متتالية؛ اعتراضاً على سياسيات زعيمه رجب طيب أردوغان، التي أدخلت البلاد في نفق مظلم، وأممت السلطة لمصلحة شخص واحد.
ويرتبط السبب الثالث؛ بخوف أردوغان من شبكة العلاقات الإقليمية والدولية التي يمتلكها باباجان، فالرجل لديه علاقات قوية لاسيما مع الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن الثقة التي يحظى بها لدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
على صعيد ذي شأن، يتميز باباجان بعلاقاتٍ متوازنة ومستقرة مع أطياف واسعة داخل المجتمع التركي، خاصة أنه أكد في مناسبات عدة أن حزبه لن يقتصر على المنشقين عن حزب العدالة والتنمية والتيار الإسلامي فقط، وإنما سيفتح أحضانه للجميع العلماني والليبرالي والكردي والمحافظ واليساري، ولذلك بادر أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول بإعلان دعمه مبكراً لحزب باباجان، وكذلك رحبت تيارات كردية واسعة.
تخوين باباجان
أحدثت حركة باباجان حالة من الذعر داخل أروقة حزب العدالة والتنمية، وعلى الرغم من محاولات أردوغان التقليل من الأوزان السياسية للمنشقين عن الحزب، وبخاصة علي باباجان فإن ذلك لم يكن أكثر من طقس ظاهري يخفي أكثر مما يبدي، ويغطي أكثر مما يكشف.
فقد تسبب إعلان باباجان عن إطلاق حزب جديد في توتر الرئيس أردوغان، وتصاعد منحنى القلق مع تقديم باباجان، في 8 يوليو الماضي، استقالته رسميا من "العدالة والتنمية"، والتفاف قيادات تاريخية حوله، من بينهم سعدالله أرغين وزير العدل السابق، وهاشم كليش رئيس المحكمة الدستورية السابق، وآخرون من نواب العدالة والتنمية.
ويسعى أردوغان إلى محاصرة باباجان وتقييد تحركاته، عبر آليات عدة أولاها، تشويه صورة المنشقين عن حزبه، حيث اتهم علي باباجان بـ"الخائن" بعد انفصاله عن الحزب.
وقال أردوغان في أحد خطاباته نهاية فبراير 2019 بمدينة توكات شمال تركيا: "هناك بعض الأشخاص ممن بدأنا هذا المشوار معهم كانوا سعداء ومرتاحين عندما منحناهم مناصب عديدة، لكن جاء وقت وقلنا لهم تنحوّا جانبًا لتستريحوا وتفتحوا المجال لزملاء جدد فإذا بهم قد نزلوا من قطارنا ليركبوا قطارًا آخر.. فهذا سلوك لا يليق بالمؤمنين بالدعوى والرسالة ذاتها وبمن يتقاسمون القدر نفسه.. فالذين يخونوننا اليوم سيخونون غدًا مَن يذهبون إليهم أيضًا."
وثانيها، اتهام علي باباجان بالانتماء إلى جماعة "غولن" المتهمة بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016، فقد حرك موظف سابق بمستشارية خزانة الدولة، دعوى قضائية أمام النيابة العامة بأنقرة، يتهم فيها باباجان بالانتماء إلى جماعة رجل الدين فتح الله غولن.
وزعمت الشكوى أن "باباجان أثناء توليه موقع وزير الاقتصاد خلال الفترة من 2009 حتى عام 2011، ساعد جماعة (خدمة) رغم علمه بتوجهاتها الإرهابية في تعيين عناصرها وأنصارها في مواقع قيادية داخل استشارية الخزانة".
جدير بالإشارة إلى أنه منذ انقلاب صيف 2016، أصبحت كلمة "غولن" هي التهمة التي تعطي الرئيس ونظامه "شرعية" تصفية الخصوم والمعارضين.
وراء ما سبق توجهت سلطات العدالة والتنمية نحو محاصرة علي باباجان إعلامياً، عبر تجاهل الحديث عن خطط حزب "الأمان"، وتم فرض رقابة على تصريحات باباجان من قبل وسائل الإعلام الموالية للحكومة.
ونتيجة شدة قبضة أردوغان على الإعلام التركي، لم يجد باباجان فسحة على أي قناة تلفزيونية للإدلاء بتصريحاته، لكن تم التحايل على ذلك من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وفي اللقاءات الصحفية، وعبر اللقاءات الشعبية مع القواعد الانتخابية والجولات الميدانية.
خلاصة القول، إن عودة باباجان إلى المشهد السياسي باتت تشكل عبئاً وتحدياً للرئيس أردوغان، خصوصاً أن باباجان موضع ترحيب من قبل المستثمرين والأسواق الدولية بشكل عام.
كما يُنظر إليه على أنه تكنوقراط راسخ، وموثوق به إضافة إلى قدرته على بناء أرضية جامعة لجانب واسع من التيارات السياسية المتباينة والمتشاكسة في البلاد.
ولذا لم يعد لدى أردوغان الذي يخشى تفكيك سلطته، في ظل نجم باباجان سوى ورقته المعهود "الخيانة".
aXA6IDMuMTMzLjEzMy4zOSA= جزيرة ام اند امز