الحقيقة التاريخية تعلمنا أن الذيل لن يكون رأسا مهما تراقص، أو التف، أو ارتفع.
قبل أن يترك منصب عمدة إسطنبول عام 1998، زار رجب طيب أردوغان وبعض قيادات حزبه العاصمة الأمريكية واشنطن، وفي إحدى الليالي تناولوا العشاء في منزل رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي المرحوم الدكتور طه جابر العلواني، وزوجته أستاذتي المرحومة الدكتورة منى أبو الفضل، وحضر حينها أشهر أستاذ للدراسات الإسلامية في الغرب الدكتور سيد حسين نصر، الإيراني الأصل، والعالم الموسوعي الذي يجله ويقدره جميع من يعمل في حقل الدراسات الإسلامية، ودراسات الشرق الأوسط، ووجّه عبارة صاعقة لأردوغان، قائلا: “إنكم كحزب ذي مرجعية إسلامية عليكم أن تختاروا، إما أن تكونوا ذيلا لأوروبا، أو رأسا للعالم الإسلامي”، وبعدها قابلت الدكتور أحمد داود أوغلو في عمان، وقضينا يوما في قرية الحصن، في منزل المرحوم الدكتور محمود رشدان بصحبة الدكتور فتحي ملكاوي، وقالها أوغلو بصراحة إننا اخترنا أن نكون رأسا للعالم الإسلامي، وبعدها عرفت من الدكتور أحمد داود أغلو، عن طريق صديق مشترك، أن أردوغان وحزبه، عقدوا العزم على أن تعود الخلافة العثمانية في 2023، أي بعد مرور قرن من إلغائها، وبصورة حديثة تناسب العصر.
جاء الانقلاب المصطنع في صيف 2016، ليتخلص أردوغان من جماعة فتح الله كولن؛ التي سبق أن اعتمد عليها لنشر القوة الناعمة لتركيا، فيطرد ويشرد ويسجن مئات الآلاف من أعضائها، ويستولي على عشرات المليارات من الليرات التركية من ثروات حركة الخدمة وأعضائها
رحلة أردوغان من موقع الذيل إلى حلم الرأس شيقةٌ، ومبهرة، استطاع حزب العدالة والتنمية أن يستخدم موقع الذيل حتى يصل إلى طموح الرأس.. ولكن كيف؟ في خلال السنوات العشر الأولى من حكم الحزب كانت أجندته السياسية الأساسية هي إكمال ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتحقيق شروط الاتحاد الأوروبي، وتغيير القوانين، والسياسات، والهياكل الحكومية لكي تستجيب لمتطلبات الاتحاد الأوروبي، والخضوع التام لمتطلبات العضوية في حلف شمال الأطلسي.. واللعبة هنا أنه وظف كل ذلك، واستخدم كل ذلك لترتيب البيت التركي ليكون خالصا لحزب العدالة والتنمية، وليتخلص من خصومه من العلمانيين والكماليين، فمن خلال متطلبات الاتحاد الأوروبي تم التخلص، وبعمليات جراحية متتالية، من النخبة التركية العلمانية، التي ظلت ثلاثة أرباع القرن تحرس تراث مصطفى كمال أتاتورك العلماني، وتنقض على أي محاولة لإعادة رموز الخلافة العثمانية لتركيا، فتم التخلص من القيادات العسكرية الكمالية، ومن القيادات القضائية، ومن النخبة السياسية، كل ذلك تم تحت مظلة الاستجابة لشروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، وبمشروعية هذا الطموح الذي هو حلم كل تركي.
وما أن انتهى حزب العدالة والتنمية من ترتيب البيت التركي، وتأمين جبهته الداخلية، حتى بدأ يؤسس لعودة الخلافة العثمانية في ثوب جديد، وصورة حديثة، وتتويج رجب طيب أردوغان رأسا للعالم الإسلامي بغض النظر عن المسمى الذي سوف يحمله، وكانت البداية ٢٠٠٨ بإعادة افتتاح “التكية العثمانية” في غزة لتقدم وجبات ساخنة للمحتاجين، ثم بدأت اتفاقيات فتح الحدود مع سوريا بشار الأسد، ومع الأردن، وأصبحت هناك حريةً لانتقال الأشخاص والبضائع دون أي إجراءات، ودون تأشيرة دخول، ثم بدأت مدارس فتح الله كولن تنتشر في مختلف أنحاء العالم العربي، وبدأت الدراما التركية تقلد هوليوود، وتصنع صورة التركي الحلم، في الحب، والجمال، والقوة، والعنف، والتآمر، لخلق حالة الاستعداد النفسي للقبول بالتركي السيد على المستوى السياسي.. كان التخطيط هادئا، والتحرك رصينا، بعيد المدى، يمهد الأرض للدخول طوعا في عصمة السيد العثماني من جديد، وبكامل الحرية، والاختيار.
ثم انفجرت الثورات العربية في وجه أنظمة الحكم الفاشلة، ووجد الأتراك ضالتهم، وجاءتهم الفرصة راقصة، مدندنة، خصوصا أن من قطفت ثمار هذه الثورات هي جماعتهم الأم، جماعة الإخوان، فانتقل التخطيط لعودة الخلافة العثمانية من المستوى الحضاري، الثقافي، الاجتماعي الهادئ، والخفي؛ إلى المستوى السياسي العملي الظاهر، وتسارعت الخطى، وانفجر الطموح، واقترب الحلم من أن تمسك به يد الحالم، وهنا برزت درة التاج العثماني، ومصدر خيراته، أم الدنيا مصر، بلد الأزهر والعلماء والمرجعية، التي منها أخذ سليم الأول ١٥١٧م المهندسون، والمعماريون، والفنانون الذي بنوا العاصمة إسطنبول. مصر تحت قيادة تنظيم الإخوان الفاشل؛ كان الحلم أن تدخل ضمن حريم السلطان، حتى لا يبقى بعد ذلك في العرب حرة واحدة. وكان الإخوان وقتها في كامل الزينة للدخول في الحرملك، ضمن حريم السلطان القادم.
وهنا ظهر "الزيني بركات" – الذي خان سلطان المماليك قنصوة الغوري وسلم ثروة مصر للسلطان العثماني سليم الأول - في صورة الرئيس الأسبق محمد مرسي، وقام بكل ما يحقق حلم أردوغان، بدأ هو وجماعته التسويق لإلغاء الحدود الاستعمارية مع فلسطين، ومع السودان، وتخلى عن الأمن القومي المصري الذي يبدأ من جبال طوروس في شمال سوريا، وسلم سوريا للعصابات المدعومة من تركيا، والتي حولت سوريا إلى عراق جديد؛ بسبب غباء، واستبداد، وإجرام نظام البعث الفاشل، وقام مرسي بكل ما قام به الزيني بركات من تسليم كل قوة مصر للسلطان أردوغان، الصورة نفسها التي رسمها الكاتب المبدع المرحوم جمال الغيطاني في روايته الرائعة "الزيني بركات".. التي تحولت الى مسلسل، ولكن سقط مرسي قبل أن يسلم مصر للسلطان العثماني، واستيقظ أردوغان من الحلم، وضاع الطموح وتبخر.. فهام على وجهه يهذي رافعا يدا مبتورة الإصبع.
ثم جاء الانقلاب المصطنع في صيف 2016، ليتخلص أردوغان من جماعة فتح الله كولن؛ التي سبق أن اعتمد عليها لنشر القوة الناعمة لتركيا؛ فيطرد ويشرد ويسجن مئات الآلاف من أعضائها، ويستولي على عشرات المليارات من الليرات التركية من ثروات حركة الخدمة وأعضائها، وبعدها بعامين تم تنصيب أردوغان رئيسا مطلق الصلاحيات لتركيا دون منازع أو معارض، كل ذلك في سبيل تحقيق الحلم، حلم أن يكون رأسا للعالم الإسلامي، ويعيد خلافة بني عثمان من جديد خارج التاريخ والجغرافيا، ولكن الرئيس الأمريكي ترامب كان له بالمرصاد، فبصفعة اقتصادية واحدة أعاده مرة أخرى ذيلا ذليلا للعالم الغربي يستجدي البقاء في الخفاء، ويرفع عقيرته بالمواجهة لجذب البلهاء وترسيخ صورة السلطان عندهم.
الحقيقة التاريخية تعلمنا أن الذيل لن يكون رأسا مهما تراقص أو التف أو ارتفع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة