عاش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بلاده ردحاً طويلاً من الزمن سلطاناً بلا منازع وحاكماً وحيداً بأمره، وحزبه يسيطر ويكتسح المنافسين
كانت الخطوة قادمة وإن تأخرت، فبعد أن عاش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بلاده ردحاً طويلاً من الزمن سلطاناً بلا منازع وحاكماً وحيداً بأمره، وحزبه يسيطر ويكتسح المنافسين، جاء الوقت الذي غدا أقرب المقربين يتخلى عنه ويقفز من مركبه، فبعد حليفه السابق ورئيس وزرائه الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي كان صديقاً صدوقاً ثم أصبح خصماً لدوداً، منشقاً عنه وفي طريقه لتأسيس حزب جديد، جاء الدور على مقرب آخر من الدائرة الضيقة وأحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان، الذي قال في خطاب استقالته: «نحتاج إلى رؤية مستقبلية جديدة كلياً لتركيا».
ينازع أردوغان لكي يحافظ حزبه على الشعبية نفسها التي كان يستمد معها قبضته القوية على سياسات الدولة الداخلية والخارجية، إلا أن كل ذلك أصبح فعلاً ماضياً، فكثير من مؤسسي «العدالة والتنمية» لم يعودوا في صفه، والبقية إما يخشون بطشه وإما ينتظرون رحيله
باباجان كما داود أوغلو يتجه لتأسيس حزب آخر، يولد من رحم الحزب المترهل القديم، يجمع فيه قياداته الغاضبين من سياسات الرئيس، التي أوصلت بلادهم لمصيرها المجهول، وليس فقط الرئيس السابق عبدالله غول، الذي يعتبر أقوى الداعمين للحزب الجديد، ولكن أيضاً عشرات القيادات من حزب العدالة والتنمية وأعضاء البرلمان ينتظرون اللحظة التي يتم الإعلان رسمياً عن الحزب المسمى «أمان»، فالحزب على أهبة الاستعداد للانطلاق، وبرنامجه معد وجاهز، و«الأمان» لتركيا شعاره، فلم تعد السفينة الأردوغانية تحتمل الركوب فيها طويلاً، وهي تسير في بحر متلاطم الأمواج وبوصلة ضائعة، بعد أن قضى نظام أردوغان على علاقات الدولة وتحالفاتها، ولم يبقَ منها إلا النزر اليسير، وهو ما انعكس سلباً على الوضع الداخلي بشكل خطير.
ينازع أردوغان لكي يحافظ حزبه على الشعبية نفسها التي كان يستمد معها قبضته القوية على سياسات الدولة الداخلية والخارجية، إلا أن كل ذلك أصبح فعلاً ماضياً، فكثير من مؤسسي «العدالة والتنمية» لم يعودوا في صفّه، والبقية إما يخشون بطشه وإما ينتظرون رحيله، كل ذلك يحدث في خضم زلزال سياسي داخلي بعد خسارة الحزب البلديات الكبرى في تركيا، ولا سيما في جولة الإعادة في إسطنبول، يقابلها فشل سياسي في علاقات تركيا الخارجية، سواء مع الاتحاد الأوروبي من جهة أو مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، ثم جاءت صفقة «إس 400» مع روسيا لتزيد الطين بلة، ويجد فيها أردوغان نفسه وحيداً لا يسانده أحد من حلفائه السابقين، الذين يتناقصون كما يتناقص أصدقاؤه ويتكاثر أعداؤه.
ربما الانشقاقات التي تتوالى ضد أردوغان لا يراها أكثر من كرة ثلج صغيرة لا يلقي لها بالاً، أليس هو من اعتبرهم خونة فقط، لأنهم أرادوا تصحيح المسار؟! إلا أن المصاعب الجمة التي تتعرض لها بلاده، بفعل سياسات متهورة بالداخل والخارج، تدفع باتجاه تضخم كرة الثلج حتى تصل للمستوى الذي لا يستطيع أردوغان مجابهتها، لا أحد يدري متى ستدق اللحظة التي يتجرع السلطان مرارة تآكل نفوذه وفقدان شعبيته، إلا أنها لحظة لا شك في قدومها، وبوادرها تتشكل أمام كل من يراقب السياسات العدوانية التي ينتهجها أردوغان، وبعد أن كان يتكئ على قوة حزبه وحليفه حزب الحركة القومية، وضعف منافسيه، تغيرت المعادلة في ظرف أقل من سنة، وأصبح «العدالة والتنمية» يتلقى الصفعات من داخل البيت، وفي الوقت الذي كبار المؤسسين يتسابقون للتخلي عن ركوب قطار السلطان، فإن جميع الأحزاب والقوى السياسية تقف ضد سياسات أردوغان، فالأكيد أن حالة الضعف التي يمر بها لم يمر بها طوال حكمه، وهو إن سعى لإظهار أنه لا يزال يتمتع بالقوة السابقة فإن الظروف المحيطة به تفضح ضعفه، وتكشف عزلته، وتزيد من ابتعاد أصدقائه. ومن يتعرض لكل هذا لن يكون إلا سلطاناً وهناً، ذهبت كل قوته.
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة