أهم اختبار للنظام الرئاسي الجديد سيكون في ساحة الاقتصاد التي تحتاج إلى تدخل علاجي كبير وسريع من أجل إنقاذ تركيا
بعد ربط معظم مؤسسات الدولة التركية بالنظام الرئاسي الجديد، حيث يمكن للرئيس رجب طيب أردوغان أن يتحكم ويتابع كل صغيرة وكبيرة في تلك المؤسسات، ابتداء من الوزارات، مرورا بمؤسسات القضاء، والجيش وانتهاء بالاقتصاد، يظهر التحدي الأكبر الآن للنظام الرئاسي الجديد في تحقيق كل ما فشل الرئيس أردوغان في تحقيقه من وعود ومشاريع سياسية واقتصادية سابقا، إذ علق فشله على شماعة النظام القديم الذي قال إن فيه الكثير من العراقيل التي تعيق تحقيق ما يريده رئيس الدولة.
سيكون أول اختبار يوم 24 يوليو الجاري عند أول اجتماع شهري للبنك المركزي بعد الانتخابات وتحت سيطرة الرئيس أردوغان وصهره، حيث يتوقع المستثمرون ويطالبون برفع سعر الفائدة مجددا، فيما يصر أردوغان على رفض ذلك مما ينذر باحتمال ارتفاع جديد في سعر الدولار.
ويبدو واضحا أن أهم اختبار للنظام الرئاسي الجديد سيكون في ساحة الاقتصاد التي تحتاج إلى تدخل علاجي كبير وسريع من أجل إنقاذ تركيا من الوقوع في سيناريوهات قاتمة، حيث تخمّن كثير من التقارير الاقتصادية أن خريف عام 2018 سيكون قاسيا على تركيا في حال لم يسرّع الرئيس أردوغان في اتخاذ خطوات جريئة، بل ومؤلمة من أجل تفادي أخطائه السابقة.
لكن المؤشرات حتى الآن لا تبشر بأن الرئيس أردوغان يدرك فداحة الوضع الاقتصادي في البلاد، وبأن نظامه الرئاسي قد لا يستطيع فعل شيء أمام الأزمة الحالية، لأنه وببساطة، قوانين الاقتصاد العالمي لا تنصاع لأوامر الرئيس أردوغان.
وفي أكبر دليل على تستر الحكومة التركية السابقة على أزمات الاقتصاد، وتظاهرها بأن الوضع سليم رغم علمها بأن الحقيقة غير ذلك، جاء قرار البنوك بالحجز على مؤسسة الاتصال التركية ترك تيليكوم بعد أيام فقط من إجراء الانتخابات.
وكان كثيرون قد تساءلوا سابقا عن سبب تأخر اتخاذ البنوك لهذه الخطوة رغم عجز المؤسسة عن سداد ديونها المتراكمة لعدة أشهر، ويظهر أن السبب كان تدخل الحكومة لتأجيل هذه الخطوة إلى ما بعد الانتخابات، حتى لا يظهر أن أهم مؤسسة يفترض أن تكون ذات ربحية عالية في تركيا قد أفلست.
وقصة إفلاس هذه المؤسسة تعتبر درسا في الفساد السياسي الذي يدفع ثمنه الشعب دون أن يدرك حقيقة ما يجري. فهذه المؤسسة تم بيع 55% من أسهمها لشركة أوجيه التي تديرها عائلة الحريري اللبنانية، مقابل 6.5 مليارات دولار، لمدة عشرين عاما، تعود بعدها الأسهم إلى الحكومة، وقد تم دفع مليار دولار فقط من أصل المبلغ، فيما أمّنت الحكومة التركية للشركة قروضا من بنوك حكومية تركية ببقية المبلغ 5.5 مليارات دولار. مقابل هذا الدعم الحكومي للمستثمر الأجنبي الذي اشترى أهم مؤسسة تركية وحصل على حق إدارتها لعشرين عاما دون أن يدفع أكثر من مليار دولار فقط، بدأ رد الجميل من خلال استباحة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا للوظائف داخل مؤسسة الاتصالات التي يفترض أنه تم خصخصتها وباتت تحت إدارة شركة أجنبية.
كما تم إجبار الشركة على تقديم مبالغ طائلة للإعلام الموالي للحكومة تحت بند "دعايات" وتقديم رواتب فلكية للعديد من المستشارين العاملين في قيادة الدولة تحت بند وظائف شرفية. كما تم إجبار الشركة على توزيع أرباح كبيرة على المستثمرين في البورصة الذين يشترون أسهمها رغم تحقيقها خسائر مالية كبيرة تم إخفاؤها عاما بعد عام، والسبب هو التظاهر أمام المواطنين بأن الشركة تحقق أرباحا وأن خطوة خصخصتها كانت صحيحة.
في النهاية أفلست الشركة، ووضعت البنوك يدها عليها مع تعاظم الدين الكلي ليزيد بكثير عن أصل الدين عام 2006، فيما لا يتوقع أي خبير اقتصادي أن تجد البنوك من يشتري منها أسهم الشركة المفلسة، لأن العقد ينص على عودة الأسهم للحكومة بعد أقل من 8 أعوام، وعليه فإن أي شركة استثمارية لن تفكر بشراء هذه الحصة لأنها لن تحقق أرباحا تتجاوز 6 مليارات دولار – وهو مبلغ الديون الحالية الذي تطالب به البنوك – خلال 8 سنوات، ناهيك عن وجود نظام رئاسي جديد يغري الرئيس أردوغان للتدخل حتى في المؤسسات التي تمت خصخصتها. وعليه فإنه من المتوقع أن يتم تحميل المواطن مسؤولية سداد هذه الديون، لأن خزانة الدولة تكفل البنوك ولن تسمح لهذه البنوك بأن تفلس بسبب بقاء هذا القرض الضخم دون سداد.
هذا غيض من فيض، والقصص المشابهة لهذه الحادثة كثيرة ومتكررة، ولا يمكن للنظام الرئاسي الجديد حلها. ناهيك عن أن تركيا قد حققت رفاهها الاقتصادي خلال العقد المنصرم مستفيدة من الأزمة العالمية، التي دفعت البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا إلى اتباع سياسة خفض سعر الفائدة إلى صفر بالمئة لعدة سنوات، مما وفر سيولة نقدية كبيرة حول العالم، ذهبت على شكل ديون منخفضة الفائدة إلى الدول النامية وتركيا في مقدمتها، فاستطاع الاقتصاد التركي خلال 2006 إلى 2015 من الحصول على القروض السهلة والرخيصة لتنمية نفسه وبناء المشاريع الكبيرة مما حقق لتركيا نسبة نمو نافست الصين.
لكن بدلا من أن تتوجه الحكومة لاستثمار هذه الأموال المستدانة في البحث العلمي والتكنولوجيا والصناعة، صرفتها على مشاريع بناء الطرق والجسور ذات العوائد الربحية القليلة، وبعد أن تعافى الاقتصاد الأمريكي وبدأ البنك المركزي الفدرالي برفع أسعار الفائدة تدريجيا منذ عام 2015 ، بدأت هذه السيولة النقدية تقل، وأصبحت الاستدانة من الخارج أكثر كلفة على تركيا التي اعتادت على دفع ديونها القديمة من خلال الحصول على ديون جديدة، بدلا من أن يتم سداد الديون القديمة من مشاريع الأرباح التي تمت الاستدانة من أجلها لأنها جميعها مشاريع شعبوية تهدف للحصول على أصوات الناخبين في الانتخابات، وليس النهوض بالاقتصاد بشكل حقيقي.
وأوضح دليل على هذا النموذج هو أنه كلما زادت الصادرات التركية وحققت رقما قياسيا، فإن الواردات تسبقها وتتجاوزها بكثير حتى بلغ العجز في ميزان التجارة الخارجي 57 مليار دولار مما يشكل 6.5% من الدخل القومي، وعندما نضيف إلى هذا الرقم الخطير حقيقة أن ديون تركيا الخارجية المستحقة تتجاوز 430 مليار دولار، يكون السؤال الصادم هو ، من أين ستأتي تركيا أو تحصل على كل هذه الدولارات للسداد؟ وهو سؤال يلهب سعر الدولار منذ مايو الماضي.
فتركيا ليست دولة نفطية حتى تبيع النفط أو الغاز وتحصل على الدولار، وما تصدره أقل بكثير مما تستورده، وعليه فإن الدولار سيأتي إلى تركيا فقط عبر ديون جديدة وباهظة مع ارتفاع سعر الفائدة خارجيا، وهذا ليس حلا، أو من خلال الاستثمارات الأجنبية وهو ما يتراجع بشكل كبير بسبب خوف المستثمرين من سياسات الرئيس أردوغان التي تحابي رجال الأعمال المقربين إليه على غيرهم، وبسبب عدم استقلال القضاء، فلا يأمن أي مستثمر على ماله في حال دخوله في نزاع قضائي.
وأخيرا يبقى المصدر الوحيد للحصول على الدولار، هو استثمار المؤسسات المالية الأجنبية في البنوك التركية للحصول على سعر فائدة أعلى من الذي يمكن أن تحصل عليه من أمريكا أو أوروبا، وهنا أيضا يتدخل الرئيس أردوغان ليرفض رفع سعر الفائدة، وعليه يحجم المستثمرون الأجانب عن إيداع أموالهم في البنوك التركية، ويشح الدولار ويقل فيزداد سعره.
وعليه فإنه كلما خرج مسؤول في تركيا ليقول إن البنك المركزي مستقل وسيرفع سعر الفائدة إن لزم نلاحظ تراجع سعر الدولار مقابل الليرة، وكلما خرج الرئيس أردوغان ليقول إنه لن يسمح بزيادة سعر الفائدة يشتعل سعر الدولار.
وفي مقابل هذه المعادلة المالية، بدأ الرئيس أردوغان حكمه الجديد بربط البنك المركزي بصلاحياته مباشرة، بدلا من أن يزيد من استقلاله، وعيّن صهره وزير الطاقة السابق براق البيرق وزيرا مسؤولا عن الاقتصاد، مع اعتراف أردوغان نفسه بأن براق لا خبرة له بالأمر حيث قال "إنني واثق من أنه سيشرب هذه الصنعة سريعا وسيجيد فيها أكثر من غيره".
إذاً، خطوات النظام الرئاسي الجديدة لا تنذر بخير للاقتصاد التركي، وسيكون أول اختبار يوم 24 يوليو الجاري عند أول اجتماع شهري للبنك المركزي بعد الانتخابات وتحت سيطرة الرئيس أردوغان وصهره، حيث يتوقع المستثمرون ويطالبون برفع سعر الفائدة مجددا، فيما يصر أردوغان على رفض ذلك مما ينذر باحتمال ارتفاع جديد في سعر الدولار كرد فعل. وبعد هذا الاجتماع ستتضح الصورة أكثر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة