ما يفعله أردوغان، أمام كل هذا الواقع، هو أنه يدفع باتجاه الحرب، لعله ينجح بالحصول على شيء، انطلاقا من اعتقاد ساذج.
تزعم سلطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنها تسعى لإزالة "الظلم" الذي وقع عليها في معاهدة سيفر التي وُقعّت في العام 1920. ولكن، بحكم أن الأكاذيب هي التي تقود أردوغان، فإن مزاعم إزالة الظلم لا تأخذ بعين الاعتبار، سلسلة كاملة من الحقائق التاريخية.
أولا، معاهدة لوزان لعام 1923، وليس معاهدة سيفر لعام 1920، هي الأساس الذي تشكلت عليه حدود تركيا الحالية. في هذه المعاهدة تمت إزالة كل ما كان يُعتبر مظالم سجلتها معاهدة سيفر. وبالتالي، لم يعد هناك أي مبرر للشكوى.
ثانيا، حدود تركيا الحالية شملت نطاقا واسعا من التعديلات التي لم يعد بالإمكان إعادة بنائها من جديد من دون إثارة حرب عالمية جديدة يشنها أردوغان ضد نفسه. ومن بين هذه التعديلات، أن أصبحت "ولاية الموصل" جزءا من العراق، بينما أصبح لواء الاسكندرون جزءا من تركيا ابتداء من العام 1939.
ثالثا، تركيا الحديثة، مثلها مثل العراق وسوريا ولبنان، وغيرها من دول المنطقة والعالم، تشكلت بموجب خرائط، لم يعد هناك أي مبرر للجدال فيها، وكلها سُجلت لدى عصبة الأمم المتحدة، لتطوي صفحة عالم إمبراطوريات غابر، وتبني عالما جديدا. وهو ما يعني أن الأحلام العثمانية، لم يعد لها مكان، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا الدولية الحديثة.
رابعا، معاهدة لوزان ليست محددة بموعد، بحيث يجوز لتركيا إعادة النظر فيها بعد مرور مئة عام من توقيعها كما يُشاع من جانب بعض أبواق أردوغان.
إعادة النظر سوف تسمح لسوريا أن تعيد النظر أيضا باستعادة لواء الاسكندرون. أما "ولاية الموصل"، فقد دفع العراقيون ثمن التخلي عنها نقدا. ولو شاءت تركيا أن تعود لضمها، فإنها سوف تضم معها قنبلة سكانية قد تؤدي إلى انفصال كل الجزء الكردي عن تركيا، أو ما يعادل الثلث الجنوبي الشرقي من تركيا كله، الذي يقطنه أكثر من 15 مليون مواطن مضطهد.
خامسا، معاهدة لوزان ضبطت حقوق الملاحة والمرور عبر المضائق التركية، وعادت هذه الحقوق لكي تُنظم من جديد في اتفاقية مونترو عام 1936، وهي التي تجسد الواقع القائم الآن. هذه المعاهدة لم تلحظ حقوقا للتنقيب في المياه الإقليمية، لأن الموضوع نفسه لم يكن مطروحا في ذلك الوقت. وبالتالي فإن هذه المعاهدة لم تعط ولم تأخذ من تركيا ما لم تعطه أو تأخذه من اليونان. البحث عن حقوق ومصالح في المياه انتظر حتى العام 1984 عندما تم تنظيم الأمر في قانون البحار الدولي الذي أتاح لكل دول العالم، بما في ذلك جزرها القريبة أو البعيدة، أن توسع سيادتها إلى 12 ميلا بحريا من البر، بدلا من 6 أميال. ثم يمكنها أن توسع منطقة "المصالح الاقتصادية" إلى 250 ميلا. وبطبيعة الحال، فإن التقاسم والشراكة، هما المعياران الوحيدان لفض المنازعات بين الدول ذات الحدود البحرية القريبة من بعضها البعض. وهذا هو المعيار، على سبيل المثال، الذي تم الأخذ به لوضع خارطة المصالح الاقتصادية بين مصر وقبرص. وهو ذاته المعيار الذي تم الأخذ به بين قبرص وإسرائيل، ومصر واليونان، واليونان وإيطاليا. وهو ما لا يُبقي مكانا لممارسة أعمال البلطجة كسبيل لتوسيع الحقوق على حساب الغير.
سادسا، الجزر اليونانية القريبة من حدود تركيا، حالها كحال كل الجزر الأخرى في العالم التي تبتعد عن البر – الأم لأي دولة أخرى. بعض جزر بريطانيا تبتعد بآلاف الأميال عن الأراضي الأم، وكذلك الحال جزر الفلبين واندونيسيا واليابان وغيرها. وهو ما ينزع كل سبب للجدال بشأن حقوق الجزر اليونانية مثل كاستيلاريزو التي تبعد ٢كم عن البر التركي. وفي الواقع فإن الأمثلة كثيرة للغاية على جزر مماثلة في العالم. فالمسألة، ليست أن هناك بحرا أم لا، يفصل بين أراضي دولتين. المسألة، في الأساس، مسألة حدود مرسومة بخطوط. فالحدود البرية بين بلدين هي تلك الخطوط، في الأساس. وهو ما يعني أن وجود أو عدم وجود فاصل مائي لا يغير في المعادلة أي شيء.
هل تستطيع تركيا أن تعيد ترسيم الحدود؟
الجواب البسيط: لا. لا يوجد منطق لذلك. كما لا يوجد أساس قانوني. وهذا أمر لن يقبله أي أحد في عالم اليوم. ومشاعر "الظلم" المزيف التي يتحدث عنها أردوغان لا مكان لها، ببساطة لأنها تنطلق من كيان غابر لا علاقة له بتركيا الحديثة.
تركيا، التي لم تكن ككيان جغرافي-سياسي موجود أصلا. فدولة الخلافة العثمانية شيء، وتركيا شيء آخر مختلف تماما.
ولو صح المنطق ذاك، فان أنقرة يجب أن تتبع الخليفة العباسي في بغداد.
ما يفعله أردوغان، أمام كل هذا الواقع، هو أنه يدفع باتجاه الحرب، لعله ينجح بالحصول على شيء، انطلاقا من اعتقاد ساذج يقول إن بالإمكان إعادة تشكيل الخرائط على أساس المفاوضات بعد الحرب.
هذا الوهم، سوف يكلف تركيا الكثير. وقد يؤدي إلى تمزيقها هي. فاليونان التي لم تتراجع في العام 1996 عندما حاولت تركيا الاستيلاء على بضعة صخور في بحر إيجة، لن تتراجع الآن، بينما يقف العالم برمته إلى جانبها. التاريخ شائك، ولكن اللعب معه خطير.
الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، أجبرت تركيا على توقيع معاهدة سيفر في 10 أغسطس عام 1920. فرفضها "مجلس الأمة التركي الكبير"، وحكم على الموقعين عليها وعلى الصدر الأعظم بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
وعندما اندلعت حرب الاستقلال التي قادها أتاتورك، مؤسس الدولة الحديثة، فقد انتهت بتوقيع اتفاقية لوزان عام 1923، التي صادق عليها "مجلس الأمة التركي الكبير" في الثالث من مارس 1924، ليبدأ مسار جديد، ولتظهر دولة أخرى، لا علاقة لها بالسلطنة العثمانية، ولا بنظام الخلافة الذي تم إبطاله في العام 1922.
تغيير الخرائط عن طريق الحروب، وإثارة نزاعات على الأراضي قد يؤدي إلى تفتيت تركيا. بل وقد يعني أن حبل المشنقة، بجريمة الخيانة العظمى لتركيا الحديثة، هو الشيء الوحيد الذي يمكنه أن ينتظر أردوغان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة