التدخل التركي.. أخطبوط يهدد التوازن الاستراتيجي العربي
هزات ومطبات جيوسياسية ضربت المنطقة العربية منذ 2003 لتصنع منطقة هشة ومفتوحة أمام أنواع التدخل العسكري والأمني خصوصا من جانب تركيا.
هزات ومطبات جيوسياسية ضربت المنطقة العربية منذ احتلال العراق عام 2003، وتفاقمت حدتها مع موجة الاحتجاجات انطلاقا من 2011، لتصنع منطقة هشة ومفتوحة أمام أنواع التدخل العسكري والأمني والسياسي من جانب القوى الإقليمية، وخصوصا تركيا.
هشاشة فرشت البساط أمام أنقرة التي لم تتأخر في استثمار نتائجها لتوسيع دورها الإقليمي، مستفيدة- في مرحلة معينةـ من صعود تيار الإسلام السياسي إلى الحكم في كل من تونس ومصر، لتفعيل مخططاتها التوسعية، واستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية.
تركيا وأضلاع التوازن الاستراتيجي العربي
رغم أن التقارير الأخيرة للعدوان التركي شمالي سوريا، وتحديدا في منطقة عفرين، لم تحمل الجديد بشأن الأطماع الاستراتيجية العثمانية الجديدة، إلا أنها بسطت قراءة شافية وواضحة حول خارطة التهديدات المحدقة بالأمن القومي العربي في جميع حدوده.
تهديدات أطبقت بثقلها على الأمن القومي العربي شمالا، وفي شماله الشرقي ببوابتيه المتوسطة والجنوبية، وامتدت أيضا لتطال بوابته على سواحل البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وصولا إلى خليج عدن، ما يشي بأن الأطماع التركية باتت على مشارف المحيط الجيواستراتيجي للأمن القومي العربي، مستثمرة اختلال توازنه في السنوات الأخيرة.
ومع سقوط العديد من ركائز الأمن القومي العربي في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن، بدا الارتباك واضحا على أضلاع التوازن الاستراتيجي بالمنطقة العربية، في مسار محفوف بمخاطر تكافح منظومة التعاون الخليجي في التخفيف من حدتها وتداعياتها.
اهتزاز أفسح الطريق أمام أنقرة التي تحاول استخدام مواردها وقدراتها لإعادة الاعتبار لمكانتها القديمة في العالم، وذلك عبر احتلال موقع مؤثر وفاعل في السياسات الدولية والإقليمية، كما تتوق لاستعادة مكانتها وهيبتها التي تعتقد أنها فقدتهما مع سقوط الدولة العثمانية، في مسار أطلق عليه البعض اسم "العثمانية الجديدة".
عفرين السورية
عقب إعلان أنقرة سيطرتها بالكامل على منطقة عفرين شمالي سوريا، نقلت وسائل إعلام دولية عن المتحدث باسم "مؤتمر إنقاذ عفرين"، حسن شندي، قوله إن "عفرين ستصبح تابعة لمدينة هاتاي (أنطاكيا) التركية"، كما سيتم تعيين والٍ عليها من قبل أنقرة.
تصريحات جاءت إثر تشكيل أنقرة ما يسمى بـ"مؤتمر إنقاذ عفرين" المتألف من ممثلين عن جميع المكونات العرقية بمنطقة عفرين، لترفع بذلك جميع الشكوك المحيطة بنوايا الحكومة التركية في سوريا، والتي حاول كثيرون، حتى وقت قريب، زرعها للتعتيم على الأطماع الحقيقية لأنقرة ريثما تمتلك زمام السيطرة على الأرض.
فبتعلة منع قيام دولة كردية على حدودها وحماية أمنها القومي، أطلقت أنقرة في 20 يناير كانون ثان الماضي عملية عسكرية في عفرين، انتهت بتحويل المنطقة إلى حلبة صراع، وانتهت بتحقيق الخطوة الأولى للحلم العثماني في الشرق الأوسط.
فما حصل هو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي سبق وأن وعد بأن العملية العسكرية لن تنتهي إلا بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، أعاد التوزيع الديمغرافي للسكان في عفرين، بحيث لا يشكل الأكراد الغالبية المطلقة فيها، ليضمن تشكيلة سكانية متعددة الأعراق من العرب والتركمان، تكسر شوكة الأكراد، وتجهض حلمهم في إقامة دولة مستقلة على حدود تركيا.
سيناريو عفرين في العراق
ما حدث في سوريا يبدو غير مسموح به في العراق، في قرار أبلغه وزير الخارجية العراقي، إبراهيم الجعفري، بوضوح تام، لوكيل وزير الخارجية التركي، أحمد يلدز، مشددا أن بغداد ترفض القيام بعمليات عسكرية على أراضيه واختراق حدوده.
تصريحات الجعفري سبقتها تلميحات أردوغان بشأن عملية عسكرية في سنجار شمالي العراق، وهو ما لم يمر مرور الكرام بالنسبة لبغداد، ما يؤكد أن التوتر العراقي التركي لم يتوقف عند قاعدة بعشيقة شمال شرقي مدينة الموصل، وإنما يستمر مدفوعا بغاية أنقرة الواضحة في التغلغل في الأراضي العراقية بذريعة قتال حزب العمال الكردستاني.
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أكد بدوره، أن القوات التركية ستتحرك باتجاه شمالي العراق، مبررا ذلك بأن بغداد لن تشعر بالأمن والأمان مع وجود الحزب الكردستاني على أراضيها، على حد قوله.
تصريحات سبقها تعهد أردوغان بتطهير حدود بلاده مع سوريا من المقاتلين الأكراد، قائلا إن أنقرة قد توسع نطاق عمليتها العسكرية الراهنة في شمال غربي سوريا شرقا حتى الحدود مع العراق.
لكن الموقف العراقي جاء حاسما، من منطلق إدراكه، وفق محللين، أن التوغل التركي ليس هدفه الوحيد محاربة الأكراد، بل هو ذريعة أنقرة لدخول الأراضي العراقية لغايات متعددة، أبرزها إحياء أمجادها الإمبراطورية العثمانية.
سواكن السودانية
تقول أنقرة إن الرئيس السوداني عمر البشير منحها جزيرة سواكن لتديرها لفترة زمنية غير محددة، بذريعة تطوير وترميم الآثار المتواجدة في هذه الجزيرة الواقعة شرقي البلاد، وتمسح 20 كم مربعا.
قرار فجر ردود أفعال غاضبة في السودان وخارجه، من منطلق إدراك الكثيرين لمخاطر الأطماع التركية في المنطقة، ويأتي عقب فشل محاولة قطر في نوفمبر/ تشرين ثان الماضي، لدى تقديمها عرضا للحكومة السودانية لإنشاء ميناء بالجزيرة، وهو ما رفضته الخرطوم قبل أن تفاجئ العالم بتمكين أنقرة من إدارة الجزيرة الواقعة على ساحل البحر الأحمر، ما يمنح الأخيرة موطئ قدم يشكل نقلة نوعية بالنسبة لها في مسار تدخلها بالمنطقة العربية.
خطوة انبثقت عن زيارة أردوغان، في ديسمبر/كانون أول الماضي، إلى السودان، لتضمن أنقرة بذلك الوقوف في منتصف الطريق باتجاه منطقة القرن الإفريقي التي تشكل نقطة تقاطع أمنية بين كل من إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، وتتأثر به السودان شمالا وجنوبا.
فهناك، وفي خضم الفراغ الأمني النسبي، أوجدت أنقرة لنفسها مجالا للتحرك داخل الظهير الإفريقي والاستراتيجي لمصر والبلدان العربية، لتسجل بذلك العودة إلى مربع التهديد والمناورة من أجل بسط النفوذ على شرق البحر المتوسط.
تحرك جديد يبحث سبل تكرار الاستراتيجية البحرية التركية، بمحاولة اختراق الجدار العربي مرة أخرى، عبر التوجه جنوبا نحو البحر الأحمر، ومحاولة الوصول إلى منافذه البعيدة من خلال بلوغ سواحل السودان ومن ثم قلب الصومال المثقل بالصراعات والإرهاب.