الانتخابات البلدية ومستقبل "نظام الوصاية" في تركيا
مثلت شرعنة تدخل أردوغان في السياسة الحزبية، خلال الأعوام الأخيرة، "الحياكة" التي أجاد صنعها وإن جاءت على حساب القانون والدستور.
لم تعد الانتخابات التي تشهدها تركيا تمثل استحقاقا تتبارى فيه الأحزاب المختلفة لتأكيد أحقيتها بتمثيل الشعب التركي، بقدر ما أضحت أحد السبل التي يوظفها النظام السياسي لتأكيد هيمنته على البلاد، عبر تطويع القوانين، وتسخير إمكانيات الدولة المختلفة ومقدراتها لترسيخ نظام "الوصاية"، بديلا عن الحكم الديمقراطي.
وتبدو الانتخابات البلدية المقررة 31 مارس/آذار الحالي الحلقة الأهم بحسبانها المتممة للانتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها تركيا العام الماضي، من جانب، ولكونها على جانب آخر، لن يلحق بها انتخابات أخرى قبل أربعة أعوام، لتدخل السياسة الحزبية مرحلة السكون النسبي حتى عام 2023.
يرى الرئيس التركي انتخابات تركيا البلدية بمنزلة "معركة الهيبة"، فيما تراها أحزاب المعارضة "الاستحقاق الأخير"، فأهميتها بالنسبة للجانبين تنبع من أنها إما أن تكون بداية جديدة لأحزاب المعارضة تفرض من خلالها واقعًا سياسيًا مغايرًا، أو تغدو نهاية لهذه المعارضة وقاداتها، وذلك بفرض نظام وصاية الرجل الواحد على المشهد السياسي في تركيا، بعد سيطرة رجب طيب أردوغان، على رئاسة الدولة، والبرلمان، والبلديات الكبرى.
وعلى الرغم من أن الانتخابات البلدية السابقة كانت قد شهدت فوز حزب العدالة والتنمية الحاكم بنسبة تصويت لمصلحته بلغت نحو 43%، فإن تحركات الحزب، وتصريحات قادته، وتقلبات تحالفاتهم، ونمط مرشحيهم في هذه الانتخابات يشير إلى تنامي القلق والمخاوف من نتائجها وارتداداتها لا سيما فيما يخص البلديات الكبرى مثل إسطنبول، وأنقرة، وأزمير، تأسيسا على أن استطلاعات الرأي حتى الآن لم تمنح الحزب الحاكم الأغلبية المريحة، وبعضها لا يمنحه أكثر من 38% من جملة أصوات الناخبين التي تقدر بنحو 57 مليون ناخب.
الدولة في خدمة نظام "الوصاية"
كان من الواضح، بعد الانتخابات التركية الأخيرة، أن النظام التركي يرى أن معركة الانتخابات البلدية تستدعي الاستعداد المبكر لا سيما أن الفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية، جاء عبر تحالف مع حزب الحركة القومية، وقد سبق ذلك تراجع حظوظ الحزب الحاكم في انتخابات عام 2015 التشريعية على نحو دراماتيكي.
ومع تنامي المشكلات الاقتصادية، وتفاقم حدة الاستقطاب السياسي على أسس أيديولوجية وعرقية، لجأ "العدالة" إلى استراتيجية الوعود الانتخابية، وتأجيل افتتاح كثير من المشروعات الخدمية حتى يقوم الرئيس بافتتاحها قبيل أيام من إجراء الانتخابات البلدية التي يلعب فيها دور "العقل المدبر"، سواء عبر هندسة قوانينها، أو اختيار مرشحيه فيها، أو الترويج والدعاية لهم، والنيل من خصومهم، وذلك على نحو دفع نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض سيد توران إلى انتقاد الرئيس التركي قائلا خلال اجتماع عقد في البرلمان: "أردوغان هو من يعين المرشحين، ويؤسس بطريقته في اختيارهم لنظام الوصاية التركي".
مثلت شرعنة تدخل أردوغان في السياسة الحزبية، خلال الأعوام الأخيرة، "الحياكة" التي أجاد صنعها الرئيس التركي، وإن جاءت على حساب القانون والدستور، فأخيرًا، أصدرت اللجنة العليا للانتخابات قرارا يقضي بعدم إخضاع أردوغان لقيود ومحظورات الدعاية الانتخابية، الأمر الذي رفضته المعارضة، مطالبة بتعديل قانون الانتخابات، تأسيسا على تعديلات الدستور التركي، ورئاسة أردوغان لحزبه السياسي، إلا أن اللجنة العليا رفضت ذلك بدعوى "أن أردوغان يترأس الدولة، والقيود الانتخابية لا تنطبق عليه".
وقد دفع ذلك كاتب تركي إلى القول "إن قبول المعارضة بهذه الاختراقات القانونية يجعل الأجدى قراءة الفاتحة مسبقا على روح الانتخابات البلدية".
وفيما سبق قرار لجنة الانتخابات قرار حكومي يقضي بتمديد عملها حتى عام 2020، فإن البرلمان التركي، بدوره، كان قد أقر تشريع يقضي بنقل صلاحية التحقيق مع رؤساء البلديات إلى رئاسة الجمهورية، بما يمنح الرئيس الحق المباشر في إقالة رؤساء البلديات المنتخبين من قبل الشعب التركي، على نحو يجعل الرئيس خارج أي إطار قانوني للرقابة أو المحاسبة، فلم تعد مقيدة سياساته، وإجراءاته الإدارية حيال الهيئات المنتخبة، إذ يُحِكم سيطرته على دوائر الحكم ابتداء من المقاطعات الصغرى، وانتهاء برئاسة الدولة، سيما بعد القرار رقم 17، الذي نشر في أغسطس 2018، ويقضي بربط جميع ميزانيات البلديات والمحليات بخطة الموازنة العامة، التي يشرف عليها براءات البيرق، صهر الرئيس، ووزير الخزانة في الحكومة التركية.
سياسات العدالة والتنمية، ووعوده بالنهوض بتركيا من كبوتها الاقتصادية، وُظفت لخدمة ذلك، رغم أن عام 2019 يمثل عامًا بلا نمو اقتصادي، الأمر الذي مثَّل أحد محركات لجوء السلطة الحاكمة إلى "الرشاوى الانتخابية"، مثل توزيع الهدايا على من يحضر مؤتمرات الحزب الجماهيرية، وكذلك توفير سيارات ومراكز ثابتة لتقديم السلع بأسعار مخفضة للتخفيف من حدة موجة الغلاء، التي يئن من وطأتها قطاعات واسعة من الشعب التركي، وكذلك تقديم تخفيضات طارئة على فواتير الكهرباء، والمياه، وبعض الإجراءات الخدمية.
الحزب الحاكم والبلديات الكبرى
وأقر الرئيس التركي اختيار رئيس البرلمان، ورئيس الوزراء السابق، بن على يلدريم، كمرشح للحزب في بلدية إسطنبول، بما يكشف عن تقدير الرئيس لأهمية الانتخابات البلدية بالنسبة للمرحلة السياسية التركية التي ربما تشهد تحديات اقتصادية غير مسبوقة، وتأسيسا على مقولة أردوغان "من يحكم إسطنبول يحكم تركيا".
وتعد إسطنبول من كبرى مراكز تركيا الحضرية، وهي المدينة التي بدأ فيها صعود أردوغان عام 1994 بانتخابه عمدة للمدينة؛ لذلك، فإن خسارة إسطنبول ستغدو ضربة موجعة للحزب الحاكم، وقد جهر أردوغان بأهمية إسطنبول قائلا: "إذا خسرنا إسطنبول، خسرنا تركيا".
لا ينفصل عن ذلك سياسات الحزب حيال مدينتي أنقرة وأزمير، حيث رشح الحزب وزير البيئة السابق محمد أوزهاسكى لرئاسة بلدية العاصمة أنقرة، ووزير الاقتصاد السابق نهاد زيبكجي لرئاسة بلدية أزمير، كما تضم قائمة الحزب الحاك كبار موظفي الهيئات الحكومية ومجلس الوزراء والمحافظين، وذلك في إطار "لعبة" تدوير المناصب التي يستخدمها أردوغان لمكافئة المقربين ومعاقبة المخالفين، كاستبعاد رئيس الوزراء الأسبق داود أوغلو، ومن قبله الرئيس التركي السابق عبدالله جول، ثم تصعيد يلدريم رئيسا للوزراء، وبعد ذلك ترشيحه رغم امتعاضه في الانتخابات البلدية، ومن قبل ذلك استقدام صهر الرئيس التركي لقيادة وزارة الخزانة بديلا عن وزارة الطاقة والموارد الطبيعية.
سياسات المعارضة و"المعركة الأخيرة"
قد تكون المعارضة التركية أثبتت فشلا، خلال السنوات الثمانية عشرة الخالية من عمر حكم تركيا، بواسطة حزب العدالة والتنمية، وربما يرتبط ذلك بالطبيعة غير المؤسسية لهذه الأحزاب وتمحورها حول قادتها، بقدر ارتباطه بتوجه الحزب الحاكم في تركيا إلى التأسيس التدريجي لدولة الحزب الواحد، ثم الرجل الواحد، واستبعاد أي مؤسسة أو شخصية يمكن أن تضطلع بدور مُهدد لشعبية الرئيس، أو تتحدى مكانته، أو تشكك في كفاءته السياسية، أو نزاهته المالية.
وعلى الرغم من ذلك، فقد شرعت أحزاب المعارضة في تشكيل "تحالفات جزئية" في الدوائر الانتخابية التي تحظى نتائجها بالأهمية الكبرى، بالنظر إلى رمزيتها السياسية، وأهميتها الشعبية، ومكانتها التاريخية، وذلك في محاولة لإحداث خرق في جدار حزب العدالة والتنمية الحاكم، من خلال الفوز بأكبر عدد من البلديات في هذه الانتخابات.
وقد أعلن حزب الشعب الجمهوري المعارض أن مرشحيه سيُدعمون في البلديات الكبرى، بالإضافة إلى أنطاليا وأضنة من قبل حزب "الخير" بالمقابل، سيدعم حزب "الشعب" مرشحي "الخير" في كل من طرابزون، وباليكسير، وسامصون، وأوردو، ومانيسا، ودنيزلي، هذا في وقت يقوم فيه حزب الشعوب الديمقراطية بدعم ضمني لمرشحي "الجمهوري" في البلديات الكبرى، على أن يخلى مرشحو الأخير بعض المقاطعات لمرشحي الحزب الكردي.
وعلى الرغم من أن نتائج استطلاعات الرأي العام تشير إلى أن حزب العدالة والتنمية قد يحصل على 38% من الأصوات، في حين قد يحظى حزب الشعب الجمهوري على 33% من الأصوات، ما يضيق الفجوة بين حزب المعارضة والحزب الحاكم في تركيا، فإن ثمة تحديات تتعلق بتزايد نسبة المترددين، وطبيعة الانتخابات البلدية، وما تفرضه من دعم المرشحين، بناءً على المقدرة على تقديم الخدمات، وليس بمقتضى الالتزام الحزبي، والأحقية بالفوز برئاسة البلديات، وذلك باستثناء قاعدة الحزب الحاكم المحافظة التي تصوت بناء على أسس أيديولوجية.
مع ذلك، ورغم تنسيق المعارضة قبيل الانتخابات، فإن الحكومة التركية لم تقِّدم، على مدى سنوات خالية، ما يُثبت تقديرها للانتخابات ونتائجها، إذا ما صبت لمصلحة خصومها، فثالث أكبر حزب في البرلمان يقبع زعيمه صلاح الدين دميرطاش في السجن، فضلًا عن سجن نحو 10 نواب آخرين وعزل عشرات من رؤساء البلديات من مناصبهم، واستُبدلوا بمرشحين من وزارة الداخلية خلال السنوات الخالية.
في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة الاعتقالات داخل تركيا، وطلبات اللجوء التركي في البلدان الغربية، فإن سلطة الحكم تستخدم محض إجراء الانتخابات لخلق شعور بشرعية النظام التركي وجدارته على الساحة الدولية التي تُوظف العديد من قضاياها على الساحة المحلية لتعبئة المواطنين وإلهائهم عن مطالبهم اليومية، عبر تصعيد حدة الاستقطاب السياسي محليا، ومن خلال إتقان "فن" صناعة العدو القابع خلف الحدود الذي يهدد سلامة واستقرار تركيا، حال ما أقدمت على التغير السياسي أو تخلت عن دعم النظام القائم.
لذلك، فقد تُفجر المعارضة مفاجأة الفوز بالانتخابات البلدية في المدن الكبرى، وقد لا تقوى على ذلك، غير أن سلطة الحكم التركي في كل الأحوال قد وضعت جميع الاحتياطات اللازمة لأن تجعل القبضة الحقيقية على هذه المدن سواءً على المستوى المالي أو الإداري تحت ولاية رئاسة الجمهورية.
وعلى الرغم من تنديد المعارضة بذلك، وانتقاد عديد من المؤسسات الغربية المعنية بقضايا الديمقراطية، فإن أردوغان لا يغير نهجه أو يبدل طريقته وأدواته التي لا يغيب عنها محاولة التأثير المسبق في نتائج الانتخابات عبر المئات من المخالفات الإدارية التي منها انتهاكات صارخة تتعرض لها كثير من سجالات الناخبين في المناطق التي خسر فيها الحزب الحاكم الانتخابات السابقة بهامش قليل.