الإمارات نقطة تواصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، ما يعني أنها مرشحة لنجاحات دولية كبرى في الحال والاستقبال
تأتي زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى الصين، لتكشف لنا عن وجه جديد من أوجه التحالفات الاستراتيجية الدولية، ذاك الذي يمكننا أن نطلق عليه "تحالف الأقوياء".
وفي الحقيقة يعتبر هذا الاسم مثيراً للتأمل والتفكر، فعن أي قوة نتحدث؟ هل نقصد معايير القوة الكلاسيكية والتي لم تكن تقيم وزنا إلا للمفاهيم العسكرية المسلحة، وللجيوش الجرارة الهدارة؟ أم لمعايير القوة الناعمة، تلك التي تحدث عنها المفكر الأمريكي جوزيف ناي، في مؤلفه الشهير" القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، والتي ذهب فيها إلى أن الأمم بتجاربها وثقافاتها، بمثلها ونماذجها الأدبية والأخلاقية، تكتسي قوة معنوية لا تقل أهمية عن نظيرتها الصلبة؟
يمضي الشيخ محمد بن زايد إلى الصين ووراءه طبقات من قوة الإمارات الناعمة، التي يتحدث بها الركبان؛ إذ يجيء من دولة تضع السلم وشيوعه والسلام وذيوعه على قمة هرمها الإدراكي والبراجماتي المستنير. يأتي من دولة أضحت نموذجا في الانفتاح الثقافي على بقية دول العالم
الشاهد أننا أمام نموذجين لدولتين تحتفلان بمرور 35 عاما على نشوء وارتقاء علاقاتهما الدبلوماسية، وخلال تلك العقود الأربعة المنصرمة توطدت أركان التعاون لتتجاوز فكرة الدور التقليدي للدولة الوستفالية، لتصل إلى طرح الدولة المثالية، والنموذج الأدبي والأخلاقي، ذاك الذي يقيم وزنا للبشر قبل الحجر.
لتكن البداية من عند الصين، تلك الدولة التي أضحت الرقم الصعب على الخارطة الدولية اليوم. وأغلب الظن أن مرد ذلك ليس قوتها العسكرية، فهناك من يسبقها في ذلك، بل نموذجها الريادي والسيادي الناجح، ذاك الذي حوّل بلدا يعيش أهله في أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة إلى الدولة صاحبة ما نطلق عليه "قوة الردع النقدي" أي أنها تردع العالم، لا سيما الأقطاب الكبرى المناوئة لها من خلال الفوائض المالية التريليونية، تلك التي توافرت لها من جراء نجاحات اقتصادية جبارة خلال العقود الثلاثة المنصرمة.
في رحلة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى الصين نتأمل من جديد طرح القوة الناعمة الذي تمضي بكين وراءه، مدعومة ومزخومة بإرث كونفوشيوسي، يرى الوجود وحدة واحدة، مع إمكانية تحريك الاختلافات من على المدارات والمسارات. لكن يبقى الكل هو الأهم، ولهذا فإن التجربة الاشتراكية الصينية المعاصرة، استطاعت تجاوز أخطاء الاشتراكية الشيوعية، لا سيما أنها اهتمت بالعنصر البشري، وارتقاء مستوى حياته، وفتحت أمامه مسارب الإبداع والتطوير، وأضحت الصين نموذجا لاقتصاد الابتكار.
عطفا على ذلك فإن الصين ومن خلال رؤيتها الطموح لـ"طريق الحرير" الجديد فإنها تعيد إحياء مسارات تمتزج فيها الثقافة مع الاقتصاد، وتصاحبهما السياسة بدرجة أو بأخرى، في محاولة لخلق نموذج للتعاون الدولي، يتجاوز فكرة الثنائية القطبية التقليدية، تلك التي عرفها العالم في القرون الثلاثة الأخيرة.
ماذا عن الإمارات وتجربتها، وموقعها وموضعها على الخارطة الدولية في حاضرات أيامنا؟
واقع الحال يشير إلى أننا أمام رسالة أكثر منها دولة، بمعنى أن الرمز والقيمة للإمارات صار مرتبطا بحقائق أنفع وأرفع من مجرد أوضاعها الديموغرافية والجغرافية، فالإمارات باتت علامة للتسامح والتصالح في منطقة مأزومة، تعيش الصراعات وتألف الخصومات، فتأتي هي لتسير على درب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، الذي زار الصين عام 1990 للمرة الأولى، وتخلق في هذا المحيط دولة رسالتها السلم، وركيزتها الأمل، مصباحها العمل، ومشعلها الأمل.
ليس سرا أن الصينيين ينظرون إلى النموذج الإماراتي الناجح إنسانيا قبل اقتصاديا على أنه تجربة خلاقة، وعليه فإن أبوظبي بدون مغالاة تبقى بوابة متميزة لبكين، من خلالها يمكن الوصول إلى أجناس العالم المختلفة، فقد باتت الإمارات "رواق الأمم"، ذاك الذي يختلف إليه الجميع، في محاولة لتمثل أبعاده، وقراءة معطياته الإبداعية، والتي تجاوزت ما هو محفوظ اتباعيا على جميع الأصعدة والمناحي.
الزيارة الرابعة هذه للشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى الصين تجسّد الحرص الإماراتي الكبير على تنمية علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين، تلك التي قفزت بفضل التعاون التجاري إلى 53 مليار دولار العام الماضي، ومرشحة للتصاعد إلى 70 مليارا في عام 2020 .
أجادت الإمارات كثيرا فهم الأزمنة وقراءة الأحداث الكونية بعين استشرافية، ونقصد بذلك أنها استوعبت مبكرا أن العالم يتغير، وأن قلب العالم لم يعد كما وصفه الجغرافي البريطاني الكبير "هالفورد ماكندر"- إنه عبارة عن أوروبا ومن وراءها أمريكا- وقد أدرك "عيال زايد" هذه الحقيقة بعمق وجلاء واضحين جدا، ولهذا ضبطوا المسافات، وصححوا المساقات الدبلوماسية والسياسية، لتبقى الإمارات على مسافة واحدة من جميع العواصم والعوالم، ولهذا نرى مكانة الإمارات الكبيرة، والتقدير الجزيل لها في الولايات المتحدة الأمريكية، بقدر ما نجد متانة العلاقات الإماراتية الروسية المعاصرة، وها هي أواصر الثقة الإماراتية الصينية تتوثق بشكل غير مسبوق.
أدركت القيادة السياسية الإماراتية وفي إدراكها هذا نجاح كبير أن الصين ذلك الرقم الصعب اقتصاديا اليوم قد بات لاعبا مشاركا ولو بهدوء على الصعيد العالمي، وأنها شريك فاعل بقوة في السياقات الأممية، بدون صخب أو ضوضاء، وأنها على هذا الأساس يتسابق المتسابقون إلى التطلع للتحالف معها، ومن بين الساعين من لا يحملون الخير للعرب عامة والإمارات خاصة من جيران جغرافيين في المنطقة. ولهذا تبقى المحافظة على نسق قيمي وتعاون اقتصادي خلاق معها، إحدى أهم أوراق العلاقات الخارجية الإماراتية، ضمن فكرة توازن القوى بشقيها الصلبة والناعمة.
يمضي الشيخ محمد بن زايد إلى الصين ووراءه طبقات من قوة الإمارات الناعمة التي باتت يتحدث بها الركبان؛ إذ يجيء من دولة تضع السلم وشيوعه والسلام وذيوعه على قمة هرمها الإدراكي والبراجماتي المستنير. يأتي من دولة أضحت نموذجا في الانفتاح الثقافي على بقية دول العالم، دولة يضرب بها المثل في التعددية والابتعاد عن الأحادية الذهنية الضيقة، وكلها عوامل تراها الصين ضروبا من الجسور المتينة مع الآخر، ومسالك تساعد الصينيين بقوة في السير عليها ضمن خيوطها وخطوطها العريضة وإن كانت مصنوعة من حرير.
وفي كل الأحوال تبقى الإمارات نقطة تواصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، ما يعني أنها مرشحة لنجاحات دولية كبرى في الحال والاستقبال، وهي قادرة بخبراتها وحكمة قيادتها أن تسير وسط أمواج البحار المتلاطة في الآونة الأخيرة بحكمة، تزيدها رصانة ومتانة تجربة الاقتراب من أبناء كونفوشيوس أصحاب الإرث الإنساني السلمي، والمغاير لنظيره الأرسطي، وفي هذا فوز كبير في الحال والاستقبال لو يعلم الناظر إلى تلك الزيارة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة