لماذا يزداد الاهتمام العربي بموضوع «المجتمع المدني»؟ هل هو تقليد أم محاكاة للغرب.
لماذا يزداد الاهتمام العربي بموضوع «المجتمع المدني»؟ هل هو تقليد أم محاكاة للغرب، بعد أن أدى المجتمع المدني الغربي دوره في تطوير مجتمعاته، وفي إنجاز مبكر للتقدم العلمي، ولأفكار حقوق الإنسان؟ أم أنه استجابة للتغيرات التي لحقت بوظائف ودور الدولة في أزمنة الحداثة وما بعدها، وحاجة التنمية إلى مشاركة القطاع الخاص وشريك ثالث هو المجتمع المدني؟
المجتمع المدني، ضرورة للروح المدنية في الهوية الوطنية، ولترسيخ قيم المسؤولية الاجتماعية في المجتمع، وتحفيز فاعلية المواطن داخل مجتمعه، والمشاركة في صناعة رفاه وسعادة الوطن.
مهما كانت المبررات، فإن فكرة «المجتمع المدني» (والبعض يسميه «المجتمع الأهلي») ومفاهيمه، لها جذورها في تراثنا العربي والإسلامي، ويحفل التاريخ بأمثلة كثيرة، وبخاصة في مجالات الحرف والمهن اليدوية، والجمعيات الخيرية، ورعاية الفقراء.. إلخ.
وقد عرفت مراكز حضارية عربية عديدة في مصر والعراق والمغرب وسوريا والجزائر عشرات الآلاف من جمعيات المجتمع المدني.. في العصور الحديثة، والتي تغطي حقولاً متنوعة، من دفن الموتى وتعليم الكبار ومهن لا حصر لها. إلى قطاعات حديثة معنية بحقوق الإنسان، ومساعدة المرضى، وحماية حريات التعبير والاعتقاد والبيئة وغيرها من القطاعات.
ورغم شيوعه اليوم في أدبيات العلوم الاجتماعية، وكثرة استخدامه في الوطن العربي، فإن هناك اختلافاً حول مكوناته. لكن المتفق عليه، أنه لا يخضع لسلطة حكومية أو مركزية، رغم أن تنظيمه يظل وفق الأنظمة المرعية. وأن أعضاءه ملزمون باحترام القوانين النافذة.
جمعيات وتنظيمات المجتمع المدني، كما هو متعارف عليه، هي هيئات غير حكومية وغير ربحية، وجوهرها لا يقوم على اعتبارها مقابلاً للدولة أو الرديف عنها. إنما هي تجمعات طوعية لإدارة العلاقات بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، عبر صيغ متنوعة ومشروطة بدرجة تطور المجتمعات وخصوصياتها، وبالكيفيات التي تعالج بها مشكلاتها.
وقد تبلور هذا المصطلح في دائرة الحضارة الغربية، خلال القرون الأربعة الماضية، وواجه أزمات عديدة، وتنوعاً في مفاهيمه وممارساته وآلياته، وفق الواقع المجتمعي لكل دولة، وطبيعة النظام السياسي، وواقعها الثقافي السائد، كما تأثر كثيراً بالمعطيات الاقتصادية والتاريخية لهذه المجتمعات.
ومن تجربة شخصية خلال مشاركتي في حوارات «منتدى المستقبل»، في العقد الأول من هذا القرن، لمست مدى اهتمام الشركاء الغربيين في هذا المنتدى الدولي، بمنظمات المجتمع المدني العربي، ومحاولة اختراقها والتأثير في توجهاتها، من خلال تمويل أنشطتها، وعبر مؤسسات شبه مدنية غربية، مما أدى إلى إصابة سمعة منظمات مجتمع مدني عربية بالتشويه، وأثر في صدقيتها وفعاليتها.
وقد أثارت مسألة الدعم الأجنبي لمؤسسات المجتمع المدني العربي، قلق العديد من الدول العربية، خاصة في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١ الإرهابية في أمريكا، حينما راهن غربيون على المجتمع المدني العربي، لنشر الديمقراطية ومحاربة التطرف. في الوقت نفسه الذي كانوا فيه يراهنون على «إسلام تركيا العلماني»، وعلى جماعات الإسلام السياسي، باعتبارها معتدلة ووسطية، كما ظن خبراء الغرب، ليكتشفوا فيما بعد خطأ خطابهم وأجنداتهم.
لا تدخل في مفهوم المجتمع المدني، التنظيمات والأحزاب السياسية، إنما يقوم على أربعة أركان رئيسية، وفي مقدمتها الطوعية أي: المشاركة الإرادية، والاستقلالية المالية والإدارية، والالتزام بمجموعة من المعايير والقيم في إدارة العلاقات فيما بين أعضاء الجمعيات من جهة، وبينها وبين الدولة، وفق أمور تنظيمية تقررها القوانين النافذة.
وتواجه منظمات المجتمع المدني في الدول العربية، العديد من المشاكل والقصور، كغياب الديمقراطية في إدارة شؤونها، وضعف قدراتها المؤسسية والمهنية، وضعف الشفافية، ونقص التمويل، وخروج بعض الجمعيات عن أهدافها، وانعكاس البيئة السياسية الصراعية عليها، فضلاً عن شبهات فساد، لحقت ببعضها، وبخاصة بفعل التمويل الأجنبي لها. إضافة إلى وجود الفردانية والمصالح الشخصية في حركتها وأنشطتها.
تبلور المفهوم الحديث للمجتمع المدني في أوروبا، كبديل عن المجتمع الديني، الذي كان يتمثل في الكنيسة، والتي كانت تملك القوة والنفوذ، وتزاحم الدولة في وظائفها، ومع مرور الزمن، ارتبط المجتمع المدني بحقوق الإنسان، وبالعمل التطوعي، وبخدمات ومهن أخرى، بعيداً عن التمذهب العرقي والديني والسياسي، ولعبت وتلعب منظمات المجتمع المدني في الغرب، دوراً ضاغطاً لصالح أعضائها في المجتمع.. ومن خلال التأثير في القرارات والتشريعات والرأي العام.
وفي الخلاصة يمكن القول إنها تجمعات وطنية وسيطة تعتمد على الذات والتطوع، ويقيمها الناس، وينخرطون فيها بإرادتهم، وينسحبون منها بإرادتهم أيضاً، وتشجع أعضاءها على العمل العام، في أطر تجمعات صغيرة أو كبيرة، ولأهداف متنوعة منها تأسيس مستشفيات أو مدارس ونشر كتب وحماية أمومة وطفولة ومستهلك وضمان حريات تعبير ومعتقدات، وقيم أخلاقية واجتماعية وحقوقية ومهنية.
المجتمع المدني ضرورة للروح المدنية في الهوية الوطنية، ولترسيخ قيم المسؤولية الاجتماعية في المجتمع، وتحفيز فاعلية المواطن داخل مجتمعه، والمشاركة في صناعة رفاه وسعادة الوطن، وتعليم المواطن ممارسة حقوقه، وتوسيع خياراته.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة