بين دولة الإمارات وتيارات الإسلام السياسي معركة ليست جديدة، ولا تحتاج إلى أقنعة.
فمنذ أن وقفت الدولة الخليجية، بصلابة وعقلانية، في وجه طوفان الربيع العربي، وهي تدفع ثمن انحيازها إلى مفهوم الدولة الوطنية، في عالمٍ اختل فيه ميزان المعاني بين ثائرٍ مسلح ومواطن يبحث عن مؤسسات تحميه.
ليست دولة الإمارات في هذا وحدها، لكنها الأكثر وضوحاً، لأنها لا تناور ولا تقف في المنطقة الرمادية.
ومنذ اللحظة الأولى، كان موقفها من جماعة الإخوان ومن المشروع المؤدلج للسلطة الدينية واضحاً، لا يقبل الالتباس ولا أنصاف المواقف.
واليوم، تعود الحملة على أبوظبي، ولكن عبر بوابة السودان، الذي تحوّل – كغيره – إلى ساحة أخرى من ساحات المعارك الصفرية التي لا تعرف منطق التسويات، ولا تؤمن بالوطن إلا بوصفه غنيمة.
السودان نموذج مكشوف لهذا السلوك السياسي الإخواني، الذي لا يحتمل وجود شريك، ولا يعترف بسقفٍ غير السماء التي يظن أنها له وحده.
فمنذ عقود، تتكرر مشاهد التحشيد والاستقطاب، باسم الهوية والدين، حيث يُختزل الشعب في جماعة، وتُختزل الدولة في حاضنة للتمكين، وتُختزل الديمقراطية في صندوق يوصلهم إلى الحكم، ثم يُكسر بعد ذلك.
السودان الذي انقلب فيه الإسلامويون على تحالفاتهم، وخانوا رفاقهم في التجربة السياسية، وركبوا موجة العسكرة حيناً، وموجة الثورة حيناً آخر، هو نفسه السودان الذي يدير اليوم معركة شعارات ضد دولة الإمارات، لا لسببٍ سوى أنها رفضت أن تكون ممولاً أعمى لما لا يمكن تمويله.
البيان الأخير الصادر عن وزارة الخارجية السودانية، في أعقاب قرار المجلس السيادي قطع العلاقات مع الإمارات، يكشف بوضوح طبيعة هذا الخطاب الإخواني، حين يُصاغ بلسان دولةٍ مختطفة.
فالمفردات التي استخدمها البيان، من "البائس" و"المثير للسخرية"، وصولاً إلى الادعاء بأن الإمارات تمارس إرهاب دولة – هي ذاتها المفردات التي تكررت لعقود من ذات الجماعة، في كل مرة يُسحب منها غطاء أو تُحرم من مورد.
الإخوان لا يتحملون أن تفلت من أيديهم عاصمة كانت يوماً قريبة من فلكهم. والإمارات تعرف هذا جيداً.
هي تعرف أن المعركة ليست مع طائفة من الساسة، بل مع سردية متكاملة، قائمة على نفي الآخر، واستباحة الدولة، وابتلاع المجتمع، وإعادة تشكيله على مقاس الجماعة.
ولهذا فإن دولة الإمارات، منذ قررت أن تواجه هذه المنظومة، كانت تعرف أن المواجهة ستطول، وأنها لن تُخاض بالأدوات التقليدية.
المعركة هنا بين النور والظلام. بين الدولة الوطنية، بما فيها من مؤسسات وحدود وشرعية دستورية، وبين جماعات عابرة للدول، لا تعترف إلا بالولاء التنظيمي والعقائدي.
المعركة بين العقل الذي يُخطط ويبني، والعقل الذي يجيّش ويُكفّر ويُفجر. معركة بهذا الوضوح لا تحتمل التجميل.
ولأن دولة الإمارات اختارت أن تكون في صف الدولة، فإنها بطبيعة الحال في مرمى نيران كل من لا يؤمن بالدولة.
في ليبيا، حين دعمت الجيش ضد المليشيات، وُصفت بأنها عدوة الثورة. في تونس، حين نبهت إلى اختطاف مؤسسات الدولة، اتُّهمت بالتآمر.
واليوم، في السودان، تُوصف بأنها مدمرة للبنية التحتية، ومتآمرة على وحدة البلاد، وهي التهمة التي تُساق ضدها لا لشيء، سوى لأنها دعمت القوات المسلحة، حين كانت المليشيات تعبث بمصير الخرطوم.
منطق الإسلام السياسي في المعارك واضح: إذا لم تكن معي فأنت ضدي. وإذا لم تمولني فأنت تحاربني. وإذا دعمت الدولة فأنت تخنق الشعب. ومن هنا تأتي المعارك الصفرية، حيث لا رابح سوى الفوضى، ولا خاسر سوى المواطن.
فالمشروع الذي لا يرى في المواطن أكثر من وقود، وفي الدولة أكثر من أداة، لا يمكن أن يُنتج إلا مزيداً من النزيف.
الإمارات تعرف الثمن. تعرف أن الاصطفاف مع الدولة الوطنية في عالمٍ مضطرب هو خيار باهظ. لكن هذا الخيار ليس جديداً عليها. فهي التي واجهت القاعدة في اليمن، ودعمت مصر في لحظتها المفصلية، وقاتلت على أكثر من جبهة دفاعاً عن الاستقرار الإقليمي. وهي اليوم، لا تتردد أن تُكمل هذا الطريق، مهما تعاظمت الحملة.
البيان السوداني ليس إلا حلقة في سلسلة ممتدة من حملات التشويه، التي تمتهنها جماعات الإسلام السياسي ضد من يكشف خطابها، ويفضح تناقضاتها. لكنها لن تغيّر شيئاً في المعادلة. فالدول لا تدار بالبيانات الغاضبة، ولا تبنى على شعارات التخوين.
ودولة الإمارات التي اختارت المواجهة، لا تخوضها بمنطق الانفعال، بل بمنطق الفعل الهادئ، والثقة بأن النور – مهما طال الظلام – لا يُهزم.
والنتيجة ستُحسم في النهاية لصالح من يحمي الدولة، لا من يختطفها. لصالح من يمنح الشعوب الحق في اختيار مصيرها، لا من يفرض عليها وصايته باسم الدين أو التاريخ أو المقاومة.
لهذا، فإن مواجهة الإمارات مع جماعات الإسلام السياسي ليست فقط معركة سياسية، بل معركة قيم، واختبار حضاري، بين مشروعين لا يلتقيان. وهي – كما أثبتت السنوات – قادرة على أن تنتصر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة