تبقى الإمارات العربية المتحدة، وأبوظبي في القلب منها، دولة رمز، بل رسالة سلام بقدر ما هي دولة وئام.
تبقى الإمارات العربية المتحدة، وأبوظبي في القلب منها، دولة رمز، بل رسالة سلام بقدر ما هي دولة وئام، في عالم أضحى يموج بدعوات العنصرية ويحفل برؤى القوميات الشوفينية، ناهيك عن صراع الأصوليات من شمال الأرض إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.
واحدة من أهم القضايا التي تهم العالم الإسلامي في حاضرات أيامنا هي قضية الجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا بنوع خاص، وقد تصاعدت الأهمية أو إن شئت الدقة قلّ القلق على تلك الجماعات، التي تمثل في واقع الحال أقليات وسط الدول التي تعيش فيها من جراء المد اليميني الذي رأيناه في العقدين الأخيرين، سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 في واشنطن ونيويورك، فقد بات ومن أسف شديد «كل مسلم» إرهابياً، أو «مشروعا إرهابيا».
حين تتبنى أبوظبي فكرة تأسيس «المجلس العالمي للأقليات المسلمة» فإن واقع الحال يؤكد أن لديها رصيداً ومخزوناً حضارياً من تجربة تعايش لأقليات من مختلف دول العالم، نجحت في صهرهم في بوتقة إنسانية واحدة، نجمت عنها قصة رائعة من الإبداعات البشرية في القرن الحادي والعشرين
لا يغيب عن ذهن القارئ وقوع العقلية الغربية في مأزق يتراوح بين التنميط المنحول والخوف الذي يصل إلى حد الرهاب، ذاك الذي عرف باسم «الإسلاموفوبيا»، الأمر الذي أجبر الكثير جداً من مسلمي الغرب إلى اللجوء إلى «الجيتو» الإسلامي في تلك البلدان، في محاولة مشروعة لتجنب المواجهات التي وصلت إلى حد الاعتداءات الجسدية، ناهيك عن الترهيب الفكري الذي يلاقونه.
فيما تستغل بعض الجماعات المتطرفة والمؤدلجة مثل تلك الأجواء لتقوم بالعمل على خلق مناخات متطرفة جاذبة للشباب الذين يرفضون هذا النوع من أنواع المعاملة غير العادلة والعنصرية، ليُرشَح لدينا في خاتمة المطاف جيل من دعاة العنف، رويداً رويداً يصبحون لقمة سائغة للتنظيمات الإرهابية، وما الأوروبيون المسلمون الذين انضموا إلى «داعش»، ومن قبلها «القاعدة» إلا مثال على ذلك.. هل هذا هو الحل؟
الشاهد أن المؤتمر الذي دعت إليه أبوظبي وشاركت فيه عدة مئات يمثلون تجمعاً للأقليات الإسلامية في عشرات الدول حول العالم، كان يمثل رؤية تنويرية تلقي الضوء الكاشف على الأزمة وتسعى في إطار الحلول الشافية الوافية دون تهوين أو تهويل للأزمة وأبعادها.
الفكرة التقدمية لمؤتمر أبوظبي تتمحور حول تفعيل دور تلك الأقليات بصورة إيجابية خلاقة تباعد بين الحضور الإسلامي في الغرب الأوروبي والأمريكي بنوع خاص، وبين عوالم التطرف الفكري أو الوقوع في براثن جماعات الإسلام السياسي التي تلاعبت بها كثير من الأنظمة الغربية خلال العقود السبعة الماضية، وهو تلاعب ماضٍ قدماً حتى الساعة.
لا يغيب عن بال أحد أن هناك الكثيرين من المتطرفين اليمينيين في الغرب اليوم قد جعلوا من الأديان منطلقاً للصراع، فيما ذهب بعض كبار المنظرين الاجتماعيين والسياسيين إلى حتمية القول بتصادم أصحاب الأديان والثقافات المختلفة، وكأن قدر البشرية هو الافتراق لا الوفاق، وطرقها إنكار الآخر وإقصاؤه بل وعزله، ذلك عوضاً عن أن يكون درب الإنسانية هو التعارف والتحابب والتواد.
فلسفة مؤتمر أبوظبي، وكما تبدت من خلال الحوارات التي دارت وعلى مدار يومين سعت إلى بلورة خطاب إسلامي جديد في الغرب يقوم على التواصل الخلاق مع الآخر دون خجل أو وجل، وبلا دونية أو صغر للذات، خطاب يصلح للتعاطي مع مجتمعات متعددة الثقافات والأعراق والأديان، خطاب يفتح أمامهم مسالك الفكر المبدع الذي يجيد الجواب عن الهوية الإسلامية الدينية السمحة القابلة للآخر والمتعايشة مع الجميع، ويميط اللثام عما في تلك الهوية من نقاط استنارة بعيدة كل البعد عن «إدارة التوحش» لـ«داعش» وأخواتها.
حين تتبنى أبوظبي فكرة تأسيس «المجلس العالمي للأقليات المسلمة» فإن واقع الحال يؤكد أن لديها رصيداً ومخزوناً حضارياً من تجربة تعايش لأقليات من مختلف دول العالم، نجحت في صهرهم في بوتقة إنسانية واحدة، نجمت عنها قصة رائعة من الإبداعات البشرية في القرن الحادي والعشرين، إبداعات امتزجت فيها الروح الإيمانية بالحياة العملية، دون التفات إلى صراعات الكراهية المحيطة بالإقليم المأزوم أو العالم الذي يعاني من صيحات الحقد.
يؤسس هذا المجلس في واقع الحال لرؤية إسلامية واقعية في الغرب وربما أيضاً في الشرق، إذ أضحى هناك عشرات الملايين من المسلمين الذين يعيشون في آسيا وأوروبا وأمريكا، رؤية تواكب عصر ما بعد العولمة إنْ جاز التعبير، سيما وأنه في الوقت الراهن باتت تمثل الوعاء الجديد الذي يتخلق فيه نظام ما بعد «النظام العالمي الجديد»، الذي بشر به جورج بوش الأب في أوائل تسعينيات القرن المنصرم وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
أفضل ما قدمه مؤتمر أبوظبي للمجتمعات الإسلامية هو استنهاض الدوافع الإيجابية عند تلك الجماعات لتكون جسوراً لا جدراناً داخل تلك الأوطان، تجسر الهوة الفكرية والثقافية بين مكونات المجتمع الإنساني، وتدفع الجميع للمشاركة في نهضة تهتم بالجنس البشري وسعادته، بغض النظر عن جنسه ولونه، عرقه ومذهبه، وهي في هذا تعيد سيرة الحضارة العربية الأولى عندما كان بلاط الخلفاء زاخراً بألوان من المشاركات النهضوية ليهود ومسيحيين ومسلمين من العرب والعجم، وبهدف واحد: ترقية الإنسان. أحلى الكلام.. فرح الحوار والجوار، يباعد بيننا وبين عالم التطرف والإرهاب.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة