رغم العقوبات الغربية شبه اليومية على روسيا واقتصادها منذ اندلاع أزمة أوكرانيا أواخر فبراير الماضي، والتي بدت في ظاهرها أو منطوقها عقوباتٍ غير مسبوقة كمًّا ونوعًا، ورغم السيل الجارف من التصريحات التي لا تنقطع على مدار الساعة من كبار المسؤولين الغربيين...
والتي يهددون فيها ويتوعّدون بحصار أو مقاطعة أو ملاحقة كل ما هو روسي، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وحتى رياضيا وفنيا وثقافيا.. فإن معظم التقارير الدولية، التي تُحصي حساب المكاسب والخسائر للأطراف الفاعلة في هذه الأزمة بعد أكثر من 100 يوم من اندلاعها، تشير إلى تناقض واضح بين السياسات والأقوال المعلنة وبين النتائج والأفعال المحققة على أرض الواقع، إذ لم تؤدِّ المقدمات إلى ما كان يجب أن تُسفر عنه من نتائج.
بل أدت في بعض الأحيان إلى نتائج عكسية، ففي الوقت الذي كان من المفترض أن تؤدي فيه الإجراءات العقابية الغربية ضد روسيا إلى "إذلالها وخنق اقتصادها وشلِّ قدرتها على مواصلة الحرب وإجبارها على إنهاء عمليتها العسكرية في أوكرانيا والحيلولة دون تحقيق مبتغاها هناك"، فإن ما تحقق فعليا على أرض الواقع حتى الآن يبدو مناقضًا لذلك إلى حد كبير.
فوفقًا لمركز البحوث حول الطاقة والهواء النظيف، وهو مركز أبحاث مستقل يتخذ من فنلندا مقرًّا له، فإن روسيا حققت خلال الـ100 يوم الأولى من حرب أوكرانيا عائداتٍ قدرها 93 مليار يورو من صادرات الطاقة الأحفورية، لا سيما من دول الاتحاد الأوروبي، التي استحوذت وحدها على 61 بالمئة من صادرات الطاقة الأحفورية الروسية، أي ما يقارب 57 مليار يورو، خلال الأيام المئة الأولى من "الهجوم" الروسي على أوكرانيا بين 24 فبراير و3 يونيو الجاري.
وجاءت ألمانيا في الصدارة بـ"12.1 مليار يورو" تلتها إيطاليا بـ"7.6 مليار يورو"، وذلك على الرغم من المناشدات الأوكرانية التي لا تنقطع لدول الاتحاد الأوروبي لوقف واردات الطاقة من روسيا وحرمان الكرملين من مصدر تمويل حربه عليها.
المفاجأة والمفارقة الكبرى، التي كشفها التقرير ، هي أن فرنسا زادت وارداتها لتصبح أكبر مستورد للغاز الطبيعي الروسي المُسال في العالم، في ظل أن عمليات شراء الغاز تتم نقدًا وليس في إطار عقود آجلة بعيدة المدى، ما يعني أن فرنسا قررت عمدًا التزود بالطاقة الروسية رغم "غزو" أوكرانيا وفقا لمحللين وخبراء فرنسيين وجدوا أن تلك الخطوة تعكس تناقضًا بين أقوال فرنسا وأفعالها، وهي الدولة التي لم يتوقف رئيسها عن الاتصال المستمر بنظيره الأوكراني ولم يترك مناسبة إلا وأعلن فيها دعمه الكامل لأوكرانيا، وكان آخر من زار العاصمة الأوكرانية في الرابع من فبراير الماضي قبيل اندلاع الأزمة، وقد يكون أول من يزورها من قادة دول الاتحاد الأوروبي بعد اندلاع الأزمة إذا صدقت التوقعات بأن يمدد "ماكرون" رحلته الخارجية التي ستشمل رومانيا ليتوقف في كييف هذا الأسبوع.
بوادر الاتساق في الموقف الفرنسي كانت قد بدأت ملامحها في الظهور الشهر الماضي، عندما بدا أن الرئيس إيمانويل ماكرون قد بدأ يدرك أخيرًا خطورة الارتهان لرغبة الإدارة الأمريكية الديمقراطية في تصفية حساباتها التاريخية مع عدوها التقليدي، روسيا، فأعلن في مايو الماضي خلال مؤتمر صحفي في البرلمان الأوروبي من ستراسبورغ، أنه من أجل "إنهاء الحرب التي يشنها الجيش الروسي في أوكرانيا يجب بناء السلام دون إذلال روسيا".
ربما لأن الرئيس الفرنسي أصبح يدرك أن الرغبة الأمريكية في "إذلال" روسيا لن تتحقق إلا عبر "إذلال" أوروبا أولا، بتدمير اقتصاداتها والاستيلاء على قرارها السياسي وعدم مراعاة مصالحها، وهذا ما لن تقوى عليه أوروبا ولن تستطيع شعوبها دفع فاتورته وتحمل كلفته.
ففي مقابل التقارير، التي تحدثت عن مكاسب روسيا الاقتصادية نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز والحبوب، أو على الأقل قدرتها على تحمل أعباء عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وقدرتها على تحمل خوض حرب طويلة هناك رغم العقوبات، فإن هناك تقارير كثيرة عن التأثيرات السلبية للأزمة الأوكرانية على دول الاتحاد الأوروبي، ورغم تفاوت التقديرات عن مدى تأثير العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو على اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي السبع وعشرين، فإنها تبدو ثقيلة حتى في أدنى مستوياتها، فالبنك المركزي الأوروبي أصدر تحذيرًا هذا الأسبوع من أن معدلات التضخم العام الجاري ربما تتخطى 7 بالمئة، وتعهد بزيادة قدرها ربع نقطة في أسعار الفائدة خلال الشهر القادم، وهي الأولى منذ ما يزيد على عقد من الزمان، سيعقب ذلك ارتفاع نسبة التضخم بقدر أكبر في موسم الخريف المقبل.
ووفقًا لتقديرات مصلحة الإحصاء الأوروبي "يورو ستات"، فإن النمو الاقتصادي الأوروبي سيتعرض لخسارة تراوح بين 0.5 بالمئة و1 بالمئة من ناتجه المحلي خلال العام الجاري، أي ما يتراوح بين 895 مليار دولار و1.79 تريليون دولار، وفي تقرير حديث للبنك المركزي الأوروبي فإن الأزمة الأوكرانية ستخفض النمو الاقتصادي لأوروبا بنسبة 0.7 بالمئة إلى 3.7 بالمئة خلال العام الجاري.
كما أشار بنك الاستثمار العالمي "جولدمان ساكس" إلى أن الحرب ستخفض معدل النمو الاقتصادي لمنطقة دول اليورو بنسبة 1.4 بالمئة.
هذا بالإضافة إلى التكاليف غير المباشرة، مثل تكاليف الأمن والدفاع في دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني زيادة التمويل عبر الاستدانة، فألمانيا على سبيل المثال تنوي تحديث جيوشها بنحو تريليون دولار، وهناك دول أخرى تخطط لزيادات كبيرة في ميزانية الدفاع بسبب "الخطر" الروسي المزعوم.
هذا بالإضافة أيضًا إلى كلفة إعادة إعمار أوكرانيا، المقدّرة حتى اللحظة بنحو 600 مليار دولار، والتي ستُلقى بكل تأكيد على عاهل الدول الأوروبية، ناهيك بتكاليف إيواء اللاجئين الأوكرانيين في الدول الأوروبية، والمساعدات التي ستدفعها أوروبا لمواطنيها من محدودي الدخل والفقراء لمواجهة فواتير أسعار الطاقة المرتفعة.
هنا يبقى السؤال: هل تستمر أوروبا في أقوالها بينما تمضي روسيا في أفعالها التي أخضعت حتى الآن نحو خُمس أراضي أوكرانيا لسيطرتها، خاصة في ظل الأنباء الواردة من منطقة دونباس، التي تقول إن الأوكرانيين يخسرون إلى جانب الأرض، نحو 60 إلى 100 جندي يوميا؟
نقلا عن سكاي نيوز عربية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة