قبل نحو 350 مليون سنة، تشكّلت كتلة جغرافية من 54 مليون كيلومتر مربع، كانت تشمل قارتي أوروبا وآسيا.
بعد تلك الملايين الهائلة من السنين، عادت فكرة الأوراسيا لتطل برأسها من جديد على القارتين الجارتين، من منظور جغرافي وديموغرافي.
كان الفضل في الأمر للرئيس الفرنسي التاريخي شارل ديغول، بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تطلع لوحدة تجمع الشعوب الأوروبية والآسيوية، من المحيط الأطلسي غربا، إلى جبال الأورال شرقا.
هل اكتشف الأوروبيون، وبعد عام من الحرب الروسية الأوكرانية، أن طيف الحلم الأوراسي، والذي كان قد لاح بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتوحّد ألمانيا، ثم انضمام عدد من دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو، قد تبخر وذهب إلى غير رجعة؟
في أوائل تسعينيات القرن المنصرم ملكت فكرة "السلام القاري" عقلية قادة أوروبا، وذهب البعض منهم وراء الحلم اليوتوبي إلى أكثر من ذلك، على أمل أن يجدوا في روسيا شريكا يشاطرهم التبادل الاقتصادي والتجارة، ما يفتح الأبواب للاعتماد المتبادل.
كانت المستشارة الألمانية ميركل، من غير أدنى شك، أحد أكثر الذين آمنوا، وإن لم تعلن ذلك رسميا بفكرة أوراسيا، سيما بعد مد خطوط الغاز من روسيا إلى بلادها، وصعود الألمان في مسارات الاقتصاد الأوروبي، لتصبح دولتهم قلب أوروبا النابض اقتصاديا.
بعد أزيد من عام بأيام قليلة، يتساءل المراقبون: "هل كانت أوروبا الخاسر الأكبر من تلك الحرب؟
التساؤل المتقدم يسعى لجواب عبر تحليل معطيات الأحداث، فيما أصحاب فكر التاريخ المؤامراتي يتحدثون عمن يقف وراء إفشال الطرح الأوراسي، ولا يخشون من توجيه أصابع الاتهام نحو الولايات المتحدة الأمريكية.
خلفت الحرب الروسية الأوكرانية عدة نتائج، تقود في مجملها إلى القطع بأن أوروبا قد فقدت مرة، وإلى زمن بعيد، احتمالات التواصل مع روسيا، هذا إن لم يتطور المشهد في المدى المنظور بصورة أكثر هولا.
الذين استمعوا إلى أمين عام الناتو، ينس ستولتنبرغ، مؤخرا، وتصريحاته عن دعم أوكرانيا، حتى وإن كانت هناك احتمالات لاتساع دائرة الصراع، يقطعون بأن "زمن السلم الأوروبي"، بدوره قد ولّى، لا سيما في ضوء مخططات الناتو القاضية بضم أوكرانيا إلى الحلف في كل الأحوال.
ليس سرا القول إن أوروبا قد خسرت كثيرا، لا على الصعيد المادي فحسب، بل على صعيد حرية الحركة والقرار السياسي السيادي، فعلى سبيل المثال، لم تعد أوروبا ساعية وراء أفكار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الخاصة ببناء جيش أوروبي موحد، بل عادت من جديد للاحتماء والاختباء ضمن مظلة الناتو.
أفرزت المواجهات من موسكو إلى كييف توجها للعسكرة بصورة غير مسبوقة منذ هزيمة النازية والفاشية، وهذا ما بدأته ألمانيا، التي رصدت نحو مائة مليار دولار لإعادة ترتيب أوراق قواتها المسلحة.
الحديث عن سباق تسلح في القارة الأوروبية أمر قد لا تستسيغه غالبية، إن لم يكن كل الدول الأوروبية، والتي لا تزال تخشى بأس الألمان، خوفا من أن تعاود استعلاءها كقوة عسكرية عظمى على صعيد القارة الأوروبية، حتى وإن لم تكن تملك أسلحة نووية، ذلك أنها قادرة على حيازة قنبلتها النووية في بضعة أشهر، لامتلاكها المعرفة العلمية والمواد الانشطارية.
ضمن التغيرات الحادثة على صعيد القارة الأوروبية، الصحوة العسكرية البريطانية، والتي تتجلى في المواجهة مع أوكرانيا، من خلال الدعم اللوجستي والاستخباراتي، وربما تراجع بريطانيا عما قريب موقفها من الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
أبعد من ذلك من تطورات تصل إلى حد التدهورات أوروبيا، فإن دولا جارة لروسيا، مثل فنلندا، التي تمتلك حدودا تصل إلى 835 ميلا، وقد حافظت لثمانية عقود تقريبا على علاقات متوازنة مع الاتحاد السوفييتي، ثم مع روسيا الاتحادية، ها هي تسارع في طريق الانضمام إلى الناتو، ومن غير انتظار للموافقة على موقف مماثل من السويد.
أوروبا، حال تصاعد المواجهات بين روسيا وأوكرانيا، مرشحة لحالة استنزاف اقتصادي، وبخاصة بعدما تعهدت بتقديم 50 مليار يورو لأوكرانيا، قدمت منها نحو أربعة مليارات، فيما الوجه الآخر من الأعباء تمثل في ردات الفعل التي أصابتها جراء العقوبات، التي فرضتها على روسيا، ودون أن نغفل أكلاف استضافتها لنحو ثمانية ملايين لاجئ، عطفا على معارك الطاقة التي لم تُحسم بعد.
الحرب الأوكرانية باتت حجر عثرة ينقسم من حوله الأوروبيون، فعلى سبيل المثال يرى المستشار الألماني أولاف شولتز أن الحل الأمثل للصراع يتمثل في مفاوضات سلام مع موسكو، بينما وزيرة خارجية بلاده، أنالينا بربوك، تميل إلى السعي لتحقيق نصر كامل على "بوتين".
هل من خلاصة؟
غالب الظن أن الأمر لن يتوقف عند حدود نهاية الأوراسيا، فالقادم قد يضحي مخيفا بصورة أكبر، إلا ما رحم ربك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة