رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، نجح في فتح صفحة جديدة بين بلاده والاتحاد الأوروبي بعد نحو 3 أعوام من توتر العلاقات بعد "بريكست".
فكك سوناك بروتوكول أيرلندا الشمالية، أكبر معضلة في اتفاق الخروج، المبرم عام 2019، وأقنع الأوروبيين بضرورة التمييز بين ما تعيشه بلفاست كجزء من المملكة المتحدة، وما تمثله في صفقة "طلاق" لندن وبروكسل.
رئيس الوزراء البريطاني تكتّم كثيرا بشأن هذه المفاوضات الشاقة، التي أجراها لأسابيع طويلة مع الاتحاد الأوروبي.. وعندما نطق بها، سجّل لنفسه مكسبا سياسيا كبيرا ثبت من خلاله زعامته لحزب المحافظين ورئاسة الحكومة.. كما منح الحزب الحاكم "بصيص أمل" في الانتخابات العامة المقررة منتصف 2024.. لا يكفي للفوز طبعا، ولكن ربما يكفي لتجنب خسارة فادحة.
سوناك أبرم مع الاتحاد الأوروبي "اتفاق ويندسور"، الذي يتجاهل بروتوكول أيرلندا الشمالية تماما.
ولأن الاتفاق ينضح بالنقاط الإيجابية، التي تستحق الدراسة والتمعن، أدار رئيس الوزراء ظهره لتحذيرات وتهديدات جميع النواب المحافظين المتشددين إزاء المفاوضات مع بروكسل.. وتبادل المصافحة الحارة والضحكات مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين.
يعالج الاتفاق الجديد عدة مشكلات أفرزها بروتوكول 2019، أولها الحدود البحرية بين أيرلندا الشمالية وبقية أجزاء المملكة المتحدة. فاستبُدلت بالحدود ممرات "خضراء" تمر منها كل البضائع والسلع البريطانية الاسكتلندية إلى الشق الشمالي من الجزيرة الأيرلندية دون تأخير أو تغييرات.. وممرات أخرى "حمراء" تخصَّص للبضائع العابرة إلى جمهورية أيرلندا، تطبق عليها الإجراءات والتعليمات المتبعة في الاستيراد كما هو منصوص عليها في قوانين الاتحاد الأوروبي.
"اتفاق ويندسور" وفّر منتجات المملكة المتحدة بكل أنواعها، في أسواق أيرلندا الشمالية.. كما سهّل وصول المصدرين البريطانيين إلى السوق الأوروبية.. كذلك سمح للحكومة البريطانية بتوحيد نظام الضرائب في دول المملكة المتحدة.. وصان السلام في الجزيرة الأيرلندية من خلال ضمان حرية تنقل الأفراد والبضائع بين شقي الجزيرة، كما نصت اتفاقية الجمعة العظيمة.
ثمة تحفظات بشأن نفوذ بروكسل في النزاعات، التي تنشأ عن "اتفاق ويندسور" في المستقبل.. ولكن رئيس الوزراء يقول إنه أبقى بيد لندن حق الفيتو للاعتراض على أي تعديل أو إجراء أوروبي يهدد الاتفاق أو اتفاقية الجمعة العظيمة.
قد لا يكون "الفيتو البريطاني" فاعلا دائما، ولكن القضاء الأوروبي لن يصدر أحكاما تقود إلى حرب أهلية بين شقي الجزيرة الأيرلندية.
ما هو مؤكد في "اتفاق ويندسور" أنه يعالج الغالبية الساحقة من المشكلات الاقتصادية والسياسية، التي تعيشها أيرلندا الشمالية.. ورفض حزب الاتحادي الديمقراطي في بلفاست، المشاركة في الحكومة المقبلة بعد هذا الاتفاق، سيضعه أمام محاكمة شعبية صارمة.. خاصة أن لندن لن تتردد الآن في الدعوة لانتخابات جديدة هناك إن استمر تعطل العمل الحكومي أكثر من ذلك.
ورغم ارتباط الاتفاق الجديد بأيرلندا الشمالية بشكل أساسي، فإن أقوى الجبهات المعارضة له تتمثل في النواب المحافظين الرافضين لأي تنازل أمام الاتحاد الأوروبي.
يتزعم هؤلاء طبعا رئيس الوزراء السابق، بوريس جونسون، ولكن لن يكون أمامهم في نهاية المطاف إلا القبول بالأمر الواقع.. حتى لو أحدثوا جلبة اقتاتت عليها وسائل الإعلام المحلية لساعات أو لعدة أيام.
لن يتردد سوناك في مواجهة المعارضين لـ"اتفاق ويندسور"، سواء اعتمد في ذلك على أدواته وأنصاره بين المحافظين.. أو استند إلى دعم حزب العمال المعارض حال قرر تمرير الاتفاق الجديد عبر البرلمان.. فالغاية تبرر الوسيلة كما يقال، ورئيس الوزراء يريد أن يقود الحزب الأزرق في الانتخابات العامة المقبلة وفق خطة متتالية المراحل ينفذها بكل هدوء.
وأكد زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر تأييده الاتفاق الجديد مع الاتحاد الأوروبي، رغم أنه "ليس كاملا"، على حد تعبيره.
لا يريد "ستارمر" تسجيل أي موقف أو رأي يضع الحزب مجددا في مرمى الاتهامات الشعبية برفض "بريكست"، كما حدث أيام الزعيم السابق جيرمي كوربين.. كما أن الاتفاق ينطوي على نقاط إيجابية كثيرة، من الخطأ تجاهلها أو تجاوزها.
من خلال تأييد ودعم الحكومة، تقاسم حزب العمال مع سوناك النصر بتحقيق "اتفاق ويندسور".. فالرأي العام بات على يقين بأن "العمال" يريدون ما يخدم صالح البلاد، ولا يمارسون الألاعيب والمراهنات السياسية عندما يتعلق الأمر بحياة سكان المملكة المتحدة.. وإذا نجح رافضو الاتفاق بين المحافظين في وقفه، فإن المعارضة ستكون في موقف أقوى مما هي عليه اليوم.
فوائد "اتفاق ويندسور" ليست محلية فقط.. وإقراره يفتح الباب أمام صفحة جديدة من العلاقات مع العالم.. فالاتفاق بمثابة ضوء أخضر لدول كثيرة، على رأسها أمريكا، لاستئناف التعاون مع المملكة المتحدة، بعد تخليها عن نيات مخالفة القانون الدولي عبر إلغاء بروتوكول أيرلندا الشمالية.. وهذا يعني مزيدا من التجارة مع الخارج ومزيدا من الاستثمارات الأجنبية في الداخل.
لقد أبدت بروكسل مرونة حقيقية في التفاوض مع الحكومة البريطانية في "اتفاق ويندسور".. والفضل في هذا أولا لحرب أوكرانيا، وما خلقته من حاجة إلى التعاون والتحالف.. لقد بددت الحرب "النيات الانتقامية" من المملكة المتحدة بسبب "بريكست" لدى بعض دول الاتحاد الأوروبي.. وفرضت على الجميع صياغة الأولويات بطريقة أخرى.
بعد إبرام "اتفاق ويندسور"، قال رئيس الوزراء إنه سيمنح الجميع وقتا للنظر فيما أُنجز قبل أن يطلب من البرلمان التصويت على الاتفاق الجديد.. ولأن النواب يمثلون الشعب في توجهه ومزاجه العام، وضع سوناك البريطانيين وممثليهم أمام استحقاق الحكم على الاتفاق.. وكأن لسان حاله يردد ما قاله رئيس الولايات المتحدة السابع والثلاثون، ريتشارد نيكسون: "الحكومة يمكن أن توفر فرصة، ولكن الفرصة لا تعني شيئًا ما لم يكن الناس مستعدين لانتهازها".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة