لليوم الثاني من ديسمبر/كانون الأول مكانة خاصة في قلوب وعقول الإماراتيين قادة وشعباً من مواطنين ومقيمين. ففي مثل هذا اليوم قبل 53 عاماً، اُعلن عن قيام "الاتحاد"؛ حين اجتمعت إرادة الآباء المؤسسين من حكام وشيوخ الإمارات السبع، واتخذوا قرارهم التاريخي بالاندم
فالإماراتيون جميعاً يتذكرون هذا التاريخ بكل الفخر والاعتزاز، حيث تتوارث الأسر والعائلات الإماراتية ذكريات وأحداث هذه الفترة المفصلية في تاريخ الدولة وذاكرة أبنائها.
إن "روح الاتحاد" التي هيمنت على خطوة الاتحاد وجمعت الإمارات السبع تحت مظلة دولة واحدة اتحادية، كانت ولا تزال هي المحرك الأساس والمحفز الجوهري على بقاء الدولة واستمرارية ازدهارها وتطورها نحو الأفضل على مدى تجاوز نصف القرن.
بل إن تلك الروح الاتحادية كانت طوال تلك العقود الخمسة بمثابة قوة دافعة نشطة لم تتوقف ولم تهدأ عن تحفيز قيادة وشعب الإمارات على التطلع دائماً نحو الأفضل، والعمل بنشاط وهمّة على الارتقاء بدون سقف محدد والتقدم نحو مستقبل بلا حدود.
ولأن بأضدادها تعرف الأشياء، تتضح قيمة ما أنجزه الإماراتيون في أكثر قليلاً من نصف قرن، إذا وضعنا قائمة إنجازات تلك الدولة الاتحادية وهي حالياً في عقدها السادس، في مقارنة مع دول أو كيانات اتحادية أخرى بعضها ناجح ومزدهر وبعضها الآخر أخفق واختفى.
كان الاتحاد السوفياتي (السابق) دولة اتحادية كبيرة بإمكانات ضخمة وقدرات هائلة وضعتها في مصاف الدول العُظمى بل كان بالفعل إحدى القوتين العظميين في العالم لحوالي نصف قرن. ومع التسليم بأن أحد أسباب انهيار تلك القوة الجبارة هو الصراع والحرب الباردة مع الدول الغربية وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن السبب الأهم لهدم ذلك الكيان الاتحادي الكبير، كانت داخلية بالأساس.
بل إن النجاح الأكبر للغرب في دفع الدولة السوفياتية الاتحادية إلى التفكك، يتلخص في استغلال وتوظيف أوضاع داخلية مهيأة تلقائياً للتلاعب بها. وفي هذا الفارق الجوهري يكمن سر استمرار ونجاح وازدهار الدولة الاتحادية الإماراتية، وازدهارها وتنامي قدراتها وتطور مستقبلها في اتجاه واحد ثابت نحو الأفضل لها وللإنسانية.
ولأن المقارنة الحقيقية تكون بين النماذج الناجحة وبعضها، فإن الإنجاز الإماراتي الذي قد يبدو عادياً، يظهر على حقيقته وبقيمته العظيمة إذا قورن مع نموذج اتحادي آخر مستمر وناجح. وليس أفضل في هذا السياق من الولايات المتحدة الأمريكية. فهي الدولة الاتحادية التي تشكلت بعد حرب أهلية دموية. ثم جمعت شتات جنسيات وأعراق مختلفة تحت لواء دولة واحدة، الاختلافات والخصائص داخلها قائمة وواضحة بين ولاية وأخرى. لكنها متفاهمة في المبادئ الأساسية والقيم العامة الحاكمة لها جميعاً.
ذلك النموذج الاتحادي الأمريكي مشابه للنموذج الإماراتي في تماسكه واستمراريته وتطوره. لكن الاختلاف بينهما جذري ومهم وله دلالة عظيمة، فدولة الإمارات أصبحت "متحدة" بعد أن كانت "متصالحة" وليست متصارعة كما كان حال الولايات الأمريكية. فالتوافق والتفاهم والانسجام بين الإماراتيين هو الأصل والإطار الحاكم للعلاقة بينهم، حتى من قبل الاندماج في دولة واحدة.
الفارق الثاني، وأراه مهماً أيضاً، هو الفارق الزمني بين النموذجين، وهو فارق يحسب أيضاً للإمارات دولة وشعباً. فما حققته الإمارات من إنجازات ومكاسب في نصف قرن، لا أقول يضاهي بل أقول يتجاوز ما فعلته الولايات المتحدة في أقل من ثلاثة قرون. وليس في هذا مبالغة على إنجازات الأمريكيين أو مجاملة للإمارات، فلو مددنا خطا مستقيما للمقارنة يمكن تخيل ما ستصل إليه الإمارات من إنجازات ومكانة وقوة بعد قرن واحد لا ثلاثة.
ولا بد من الانتباه إلى أن مكانة الولايات المتحدة الأمريكية ووضعيتها كقوة عظمى بل وكقطب أوحد في العالم، تحصلت عليها أساساً من قوتها العسكرية. وها هي تتراجع حالياً في النظام العالمي، مع تغيير مضامين العلاقات الدولية وتبدل مفاهيم القوة وبروز الجوانب الاقتصادية والأبعاد التنموية فيها، فضلاً عن القوة الناعمة وما تمثله من مصادر هائلة للقوة والنفوذ والتأثير في العالم المعاصر. وهذا تحديداً ما تركز عليه الإمارات، ليس بهدف تكريس القوة أو تعظيم المكانة بحد ذاته، وإنما سعياً إلى التنمية والرفاهية والازدهار لكل إنسان إماراتي أو غير إماراتي.
تلك هي الدلالة العميقة والمغزى البعيد لـ"روح الاتحاد"، تلك الروح ذات الجوهر الإنساني، التي لا تزال ترفرف على شعب وأرض الإمارات وتلهم قيادته الحكمة والصواب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة