تبدو تركيا في سياستها إزاء أزمة سوريا واقعة بين قطبين دوليين مؤثرين، في هذه الأزمة وغيرها من أزمات الإقليم، في شكل صراع على الجيوسياسية.
فمن أوكرانيا إلى سوريا وصولا إلى ليبيا، تبدو السياسة الخارجية التركية محكومة بهذه المعادلة إلى حد كبير، وهذا يعود أساسا إلى موقع تركيا الجيوسياسي الحيوي، بغض النظر عن من يحكمها أو يقودها.
قبل نحو شهر، أرسلت الإدارة الأمريكية السفير السابق، جيمس جيفري، المعروف بعلاقته الجيدة مع المسؤولين الأتراك، إلى أنقرة، حاملا معه مبادرة للوساطة بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، ومحاولة التوصل إلى تفاهم بين الجانبين، وإقامة هياكل مشتركة بين "قسد" والفصائل السورية المسلحة في غربي الفرات، على أن تكون تركيا راعية لكل ذلك، ما سيزيد دور ونفوذ أنقرة في الأزمة السورية.
ويبدو أن الهدف الأمريكي من وراء ذلك كان إضعاف النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، والحد من التجاوب التركي مع المسعى الروسي للمصالحة بين أنقرة ودمشق.. كل ذلك لصالح مسار سياسي تريده واشنطن، والغرب عموما، يأخذ شكل وضع القرار الدولي 2254 -الخاص بالأزمة السورية- على الطاولة، ما يعني وضع نهاية لمسار "أستانا-سوتشي".
من الواضح أن مصير المبادرة الأمريكية كان الفشل، أولا لأن من شأن هذه المبادرة اعتراف تركي بـ"قسد"، التي تصفها أنقرة بـ"الإرهابية"، في ظل خشية تركية من أن يؤدي مثل هذا الاعتراف إلى جلب اعتراف دولي وإقليمي بالكيانية الكردية في شرقي الفرات، وهو ما سيكون له تداعيات مستقبلية على أكراد تركيا، وذلك على شكل رفع سقف المطالب القومية الكردية هناك، في وقت تخوض تركيا حربا ضد حزب العمال الكردستاني منذ أكثر من أربعة عقود.
وثانيا، لأن تركيا اتجهت بقوة إلى الاستجابة للجهود الروسية الساعية إلى تحقيق مصالحة بين أنقرة ودمشق، حيث ترى تركيا أن هذه المصالحة ستحقق لها سلسلة مكاسب سياسية، تبدأ بتفاهمات مع الجانب السوري على محاربة "قسد"، وإيجاد حل لمشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، وإعادة الدفء إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وصولا إلى صرف كل ما سبق في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في الصيف المقبل، وهي انتخابات مصيرية للحزب الحاكم، كما أنها انتخابات مهمة جدا للرئيس "بوتين"، فضلا عن أهمية دفع العلاقات الروسية التركية للجانبين، بعد أن قطع البلدان شوطا كبيرا في مختلف المجالات، لا سيما بعد صفقات نوعية، على رأسها صفقة شراء تركيا صواريخ "إس-400" من روسيا، ومنح الأخيرة عقد بناء مفاعل "قويوي" النووي التركي، والجهود الجارية لتحويل تركيا إلى مركز للغاز الروسي، ومن ثم نقله إلى الخارج.. وهي مشاريع يقابلها الغرب بالرفض، ويعدها خروجا عن ثوابت علاقات تركيا بحلف الناتو، وسط حرص منه على عدم خسارة العلاقة الاستراتيجية مع تركيا.
انطلاقا من الحسابات السابقة لكل طرف، يمكن القول إن السياسة التركية تبدو لها علاقة بالصراعات الجيوسياسية المعقدة، فهي بعد أكثر من سبعة عقود من الانضمام إلى عضوية حلف الناتو، تبدو "أوراسية الهوى" أكثر مما هي "أطلسية"، ويبدو أن الرئيس بوتين عرف كيف يتلقف هذه اللحظة السياسية المهمة في السياسة التركية، وكيف ينسج علاقة قوية مع نظيره التركي، وطرح آليات عمل بينهما لتعزيز سياستهما القومية، على قاعدة رفض السياسة الأطلسية الرامية إلى الهيمنة، مع أن مثل هذه السياسة باتت تثير أكثر من علامة استفهام حول مستقبل العلاقة بين الناتو وتركيا.
خيار تركيا في التوجه نحو المصالحة مع دمشق يتجاوز الحسابات السياسية الراهنة، إلى حالة التحول الجارية في سياستها الخارجية، وهي سياسة يبدو أن صانع القرار التركي بات مقتنعا بأنها ستعزز موقع تركيا، وستزيد نفوذها الإقليمي والدولي، وبالتالي مصالحها القومية، ولعل كل ما سبق يضع السياسة التركية أمام حالة تموضع جديدة في العلاقة مع الغرب، الذي سعى ويسعى إلى إعادة البوصلة القديمة لعلاقته بتركيا، حتى لو عبر الانتخابات الرئاسية التركية، كما قال الرئيس الأمريكي، جون بايدن، قبل وصوله إلى "البيت الأبيض" بفترة قصيرة، وعليه أعلنت واشنطن رفضها المصالحة الجارية بين أنقرة ودمشق، ولوّحت بأوراق كثيرة لإفشال جهودها، دون أن تفقد أمل التفاوض مع تركيا على ترتيب حركة عقارب الساعة وفق البوصلة الأمريكية، وفي كل ذلك تصعيب لحسابات تركيا، وربما وضعها أمام محنة اختيار بين البقاء على التحالف التقليدي مع الغرب، أو الذهاب إلى الانفكاك التدريجي عنه لصالح تحالفات أوراسية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة