الأمر الوحيد الذي يمكن أن يضمن لم الشمل الأمريكي مرة جديدة هو الأمن القومي الداخلي والحفاظ على المصالح الأمريكية الاستراتيجية المهددة.
"قضي الأمر أو نفذ السهم" كما قال يوليوس قيصر ذات مرة، وهي من المرات القلائل التي تصدق فيها توقعات استطلاعات الرأي التي قالت بفوز الحزب الديمقراطي الأمريكي بأغلبية مجلس النواب، واحتفاظ الحزب الجمهوري حزب الرئيس بالنسبة المهيمنة على مقاليد الأمور في الغرفة الأعلى من الكونجرس، أي مجلس الشيوخ.
الأمر الوحيد الذي يمكن أن يضمن لم الشمل الأمريكي مرة جديدة هو الأمن القومي الداخلي والحفاظ على المصالح الأمريكية الاستراتيجية المهددة في الخارج، والجميع في الداخل الأمريكي لا يزال ينتظر ردات الفعل الإيراني على المرحلة الثانية من العقوباتالتساؤل الرئيسي إزاء المشهد الأمريكي الحالي.. ما الذي أدى إلى فقدان الجمهوريين سيطرتهم على النواب؟ وما التبعات المترتبة على هذا التغير في بنية الكونجرس الهيكلية من الآن وحتى 2020؛ موعد انتخابات الرئاسة المقبلة؟
ربما يكون الحديث مبكرا بعض الشيء، لكن في الأفق علامات شبه مؤكدة، فهناك حراك اجتماعي عريض في الداخل الأمريكي رافض السياسات الترامبية الجذرية التي يعتبرها البعض ضربا من ضروب شق صف ووحدة النسيج الأمريكي، فخلال عامين ارتفعت نبرات اليمين سواء الوسط أو المتطرف، وقد غازل ترامب ولا شك هؤلاء وأولئك بقضايا الهجرة والمهاجرين.
الذين صوتوا للديمقراطيين كثر، في مقدمتهم الجاليات العرقية الكبرى مثل اللاتينيين وهم عادة يصوتون للديمقراطيين، والأمريكيين من أصول عرقية شرق أوسطية أو آسيوية.
المثير جدا هو أن هناك كتلا تصويتية أمريكية بيضاء معتدلة كانت قد صوتت لترامب في انتخابات الرئاسة 2016 بدا بالأمس وكأنها صوتت للديمقراطيين، اعتراضا على سياسات ترامب الداخلية، هؤلاء الذين بلغ بهم الخوف من ترويج ترامب شعبوية مخيفة، وفي المقدمة من هذا التيار فريقان:
الأول: هن نساء أمريكا، وغالبيتهن ملن للتصويت لصالح الديمقراطيين، رفضا لرؤية ترامب المرأة بشكل عام، لا سيما أن ميزانه الأخلاقي لا يدعمه كثيرا في هذا السياق.
الثاني: هم جيل الألفية أولئك الذين ولدوا في الفترة ما بين عامي 1981 و1996، هذا الجيل الذي لم يعد يؤمن بالصوت الشعبوي في السياسية الأمريكية الحالية، وباتت موثوقيته في الحزبين الكبيرين ضعيفة إلى حد المنعدمة، وقد وعدوا بأنهم سيغيرون من شكل أمريكا الأحادية إلى أمريكا "الكل في واحد"، إن جاز لنا استعارة شعار الفرسان الثلاثة للكاتب الفرنسي الكبير ألكسندر دوماس الأب في رائعته الشهيرة.
أمريكا المنقسمة على الأبواب حاول ترامب إخفاءها عبر تصريحه بأن نتيجة الانتخابات رائعة، واعتبر الأمر نجاحا كبيرا، وهو تصريح مراوغ في حقيقة الأمر، ومرد ذلك أن الديمقراطيين سوف يضعون كثيرا جدا من العصي في دواليب الإدارة الجمهورية الحالية ومشروعاتها، سواء للصحة أو التعليم أو قوانين الهجرة، وغيرها من القضايا الداخلية المثيرة للجدل.
على أن الأمر الأكثر إزعاجا -ولا شك لترامب- هو أن المجال في مجلس النواب في التضييق على تراب بشأن إشكالية روسيا-جيت سوف يزداد بصورة مضطردة، وعلى الرغم من أن مجلس النواب لا يستطيع عزل ترامب دون موافقة ثلثي مجلس الشيوخ، إلا أنه قادر على اتخاذ قرار في هذا السياق بشكل رمزي، مما يضعضع شعبية ترامب لإفقاده إمكانية الفوز في الانتخابات الرئاسية 2020.
لكن على الجانب الآخر تظهر مراوغة ترامب، فقد يرتكن إلى المجلس الديمقراطي كمعطل لسياساته والمزايدة على الأمر، حتى يبدو في عيون الناخبين الأمريكيين عما قليل وكأنه ضحية الديمقراطيين، ما يكسبه زخما جديدا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
في هذه الأثناء ووسط أمريكا المنقسمة روحها داخلها تتعالى الأصوات للبحث عن تيار حزبي أمريكي ثالث بعيدا عن الفساد السياسي الذي بات يلف الجمهوريين والديمقراطيين، ويبدو أن هناك حظوظا بعينها لتيار الديمقراطية الاشتراكية الأمريكية، وهو اليوم يقفز مختصما عشرات الآلاف من الناخبين الأمريكيين، وربما خلال بضعة أعوام سيكون قادرا على استقطاب الملايين، بما يعني احتمالات تغيير وجه أمريكا التقليدي.
الأمر الوحيد الذي يمكن أن يضمن لم الشمل الأمريكي مرة جديدة هو الأمن القومي الداخلي والحفاظ على المصالح الأمريكية الاستراتيجية المهددة في الخارج، والجميع في الداخل الأمريكي لا يزال ينتظر ردات الفعل الإيراني على المرحلة الثانية من العقوبات، وهل يمكن أن يمضي المشهد إلى مواجهة عسكرية مكثفة ودخول البلاد في حرب جديدة أم لا؟ مع الأخذ في عين الاعتبار أن هذا الخيار وخيارات أخرى مماثلة، كالعلاقات مع روسيا وملف كوريا الشمالية، تعد أوراق لعب مهمة وخطيرة أيضا بالنسبة لترامب.
هل كانت انتخابات التجديد النصفي الأخيرة بمثابة بروفة لانتخابات الرئاسة المقبلة؟
لا يزال المشهد الأمريكي الداخلي مشوشا، وحالة تأرجح تقترب من التذبذب في الروح الأمريكية، بين الواقعية والمثالية، إلى حين إشعار آخر، أو ظهور فارس أمريكي جديد على جواد يسابق الرياح لعودة أمريكا كـ"مدينة فوق جبل" مرة أخرى، وتتخلص من صفتها الموصومة بها: "تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة