الإدارة الأمريكية تبدو في تعاملاتها مع إيران وفي المدى المنظور معتمدة على خيارات واحدة ودون التنسيق مع الجانب الأوروبي.
مع قرب دخول العقوبات الأمريكية في درجتها الثانية على إيران حيز التنفيذ تثار تساؤلات حول ما يمكن أن تمثله من تأثيرات حقيقية يخطط لها الجانب الأمريكي بالفعل، وفي إطار مخطط أمريكي للتعامل مع إيران من خلال استراتيجية تستهدف دفعها لحافة الهاوية دون إسقاط النظام الإيراني، مع العمل على تغيير توجهات النظام الإيراني، وإن كان هذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت مع وجود توافق داخل الإدارة الأمريكية على مخطط التعامل مع إيران في الفترة المقبلة.
لن تكون هناك أية محاذير أو قيود على التحرك الأمريكي تجاه رأس النظام الإيراني ذاته، وعلينا أن ننتظر لنرى ولتبقى كل السيناريوهات الأمريكية محتملة للتعامل مع الحال الإيرانية بكل تعقيداتها الحالية
أولا: يبدو المخطط الأمريكي للتعامل مع إيران قائما على التعامل مع الحالة الإيرانية بصورة متدرجة وليست مرة واحدة، وهو الأمر الذي يفسر سياسة العقوبات على درجتين للتمهيد للبدء في تغيير سياسات وتوجهات النظام الإيراني حال بدء تنفيذ العقوبات، خاصة في القطاعات الاستراتيجية وليس فقط في المصارف والبنوك وقطاع النفط، وهو ما يؤكد أن السياسة الأمريكية ستعمل على تصدير أزمة حقيقية للنظام الإيراني لإثنائه على مخططه الحالي، خاصة مع توتر الأوضاع في الداخل واستئناف التظاهرات ودخول شرائح جديدة في منظومة المحتجين، وهو ما يشير إلى أن الإدارة الأمريكية تسعى بالفعل إلى دفع قطاعات من داخل الخريطة السياسية والمجتمعية المحتقنة للثورة في وجه النظام لتضرر مصالحها الاقتصادية، ومن ثم تخرج من حال القبول بالوضع الراهن إلى حال الاحتجاج والتذمر، التي ما تزال مرفوعة في الساحة الإيرانية حتى قبل تطبيق المرحلة الأولى من العقوبات، والتي كانت مقدمة حقيقية للعقوبات الجديدة والتي سيؤدي تطبيقها بالكامل إلى تكلفة موجعة للغاية للنظام الإيراني، الذي ما زال يناور في مساحة ضيقة ولا يبارحها، خاصة مع تقييمه بأن الإدارة الأمريكية جادة في نقل الخلاف مع النظام الإيراني للداخل، مع العمل على تحقيق إنجازات تتعلق بسياسة العقوبات على مراحل وتقييم حجم التضرر من تطبيقها، خاصة في القطاعات الاستراتيجية المؤثرة، مع التوقع بأن يتجاوز برميل النفط بسهولة عتبة الـ100 دولار.
ثانيا: تبدو الإدارة الأمريكية في تعاملاتها مع إيران وفي المدى المنظور معتمدة على خيارات واحدة ودون التنسيق مع الجانب الأوروبي، بل بالعكس هددت وتوعدت الشركات الأوروبية في حال استمرارها في التعامل مع إيران، مما سيغلق باب التعامل في الأسواق الخارجية متعددة الجنسيات، وهو ما كانت تقوم به إيران في مراحل معينة وقبل توقيع الاتفاق النووي، ونجحت في إحداث ثغرات في برنامج العقوبات، أما اليوم فإن الأمر مختلف تماما، ولن تستطيع إيران الإفلات من المنظومة الأمريكية الراهنة للعقوبات، ولن تستطيع الفكاك منها، مما سيؤكد أن الإدارة الأمريكية نجحت في دراسة مشهد العقوبات السابق، وخلصت منه بخبرات متعددة منعا لحدوث أية ثغرات جديدة، ومن ثم فإن الطرح الأوروبي بتأسيس شكل قانوني أو آلية جديدة للتعاملات الأوروبية الإيرانية تتجاوز ما كان قائما لم ينجح أبدا، خاصة أن الإدارة الأمريكية -كما هو واضح- سترفض أي صيغة للتعامل الأوروبي الإيراني، بل ستعمل على إفشاله قبل أن يبدأ، خاصة أن الإدارة الأمريكية لديها بالفعل نظام رقابي حقيقي قائم على التعاملات الدولية، ليس فقط في أسواق النفط بل يمتد إلى مجالات أخرى بنكية واستثمارية واقتصادية حول العالم، ومن ثم فإن العقوبات الجديدة على إيران ستكون جادة وشاملة، وليست فقط مجرد عقوبات ستفرض، أو أنه يمكن أن يحدث فيها اختراقات من أي نوع، حيث من المقرر أن تفعل العقوبات على إيران، ثالث أكبر مصدر للنفط في أوبك، مع إجبار السلطات الأمريكية الدول المستوردة للخام الإيراني على خفض وارداتها إلى صفر، لإجبار طهران على التفاوض على اتفاق نووي جديد.
ثالثا: من الواضح أن هناك توافقا حقيقيا داخل الإدارة الأمريكية للتعامل مع الحالة الإيرانية، وهناك انسجام لافت في فريق إدارة الرئيس ترامب تجاه كبح جماح إيران ووقف تحركاتها، ومواجهة مخططها السياسي والاستراتيجي التدخلي، مع العمل على تصدير أزمة حقيقية للنظام الإيراني لكي تضيق خياراته المتاحة، والتي يسعى الرئيس الأمريكي ترامب للوصول إليها من خلال إعادة إيران للتفاوض والقبول بالخيارات الأمريكية والأوروبية مرة أخرى دون وضع شروط أو متطلبات سياسية أو أمنية جديدة، خاصة مع الرهان بأن إيران لن تنجح في الدخول في مرحلة تخصيب اليورانيوم في ناتنز وبوشهر مرة أخرى، وأن استئناف الأنشطة النووية -أي كان مهامها ودورها- لا يمكن أن يتم في هذا التوقيت، وفي ظل حال العقوبات الشامل مما سيعرقل أي مسعى قد تخطط له إيران ليكون البديل التصاعدي، إذ يفترض نموذج الرشادة السياسية ألا تقدم إيران في ظل هذا المناخ المعقد وتفعيل منظومة العقوبات على القيام بدور مشابه لما قامت به في مراحل سابقة، ونجحت في الوصول إليه عبر آليات معقدة، وتدابير سياسية وأمنية واستراتيجية متعددة التوجهات في توقيت بالغ الأهمية، وارتكانا لموقف دولي لم يكن يعمل بأكمله ضد إيران ورأي إمكانية التعامل معها، وهو ما خلف الاتفاق النووي، والذي استمر سنوات قبل أن تنسحب منه الولايات المتحدة وفقا لرؤية الرئيس ترامب، وبرنامجه السياسي ليس تجاه إيران بل أيضا تجاه الدول الحليفة، وهو ما يؤكد فعليا أن الإدارة الأمريكية ستمضي في نهجها السياسي لآخر المطاف، ولن تتراجع بناء على ما يساق سياسيا من مواقف راهنة تستهدف تغيير سلوك النظام السياسي إقليميا، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل المشهد الراهن، ولا يمكن توقعه مع تشابك الموقف الإيراني في أغلب قضايا الإقليم المفتوحة على مصراعيها، ومن ثم فلن تتخلى عن حضورها السياسي الحالي دفعة واحدة، بل ستخضعه للمساومة -وهو أمر سيكون متوقعا ومطروحا- حال تسليم إيران تكتيكيا في الدخول في مفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة مباشرة، وليس مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيستمر الرئيس ترامب مراهنا عليه، ولن يقبل فيه بخيارات وسط أو حلول توافقية في إطار ما يجري من تغيرات حقيقية مرتبطة بأسواق النفط والبدائل المطروحة والسياسات البديلة التي ستدخل حيز التنفيذ طوال الأيام المقبلة، ومن المؤكد أن هذه السياسات ستكون فعالة ونافذة، وسيلتزم بها الجميع وإلا فإن الإدارة الأمريكية ستلحق الضرر من خلال إجراءات تم اتخاذها أمريكيا، ولن تعلن على الملأ إلا في حال حدوث ثغرات أو إخلال بما أعلن أمريكيا، وهو ما سينطبق على الشركات الأوروبية وغيرها من الشركات في الأسواق البديلة في آسيا تحديدا، وهو ما تتحسب له الولايات المتحدة وستقف في مواجهته، على اعتبار أن الالتزام الكامل بسياسة العقوبات وإجراءاتها يجب أن يلتزم الجميع بتوجيهات أمريكية مباشرة، وإلا فإنها ستقع تحت طائلة العقوبات الأمريكية المقرة مسبقا، والتي حذرت الإدارة الأمريكية من تبعاتها حال إخلال أي طرف بها.
رابعا: تدرك إيران أن الإدارة الأمريكية لن تقبل بأي إخلال بسياسة العقوبات التي أعلنتها، وستمضي في تنفيذها، ومن ثم فإن التكتيك الإيراني الجديد سينطلق من التأكيد على إيران دولة كبيرة، وأن لديها خيارات حقيقية في التعامل، وأنها تتعامل مع الداخل الإيراني المضطرب والمتدهور انطلاقا من فكر تآمري يسعى إلى ضرب الدولة الإيرانية من الداخل، وإحداث نوع بين النظام الإيراني بكل مراكز قوته ونفوذه وبين الشعب الإيراني الذي يقوم بتظاهرات في عديد من المدن الإيرانية، بل في قلب مدن شيعية كبرى ما كان يمكن أن تحدث فيها مثل هذه القلاقل، ومن ثم فإن إيران ستستمر تسوق لفكرة المؤامرة على الدولة والنظام والشعب، ولن يتراجع خطابها السياسي في هذا السياق، كما ستحاول إيران العمل على إحداث اختراق في المواقف الأوروبية تجاه الولايات المتحدة، كما ستعيد التنسيق الكامل مع روسيا، وهو ما قد يقلل من إطار سياسة التطويق والحصار التي تسعى الإدارة الأمريكية لإتمامها على إيران، وهو ما قد يضع العديد من السياسات الجديدة للإدارة الأمريكية تجاه ما سيجري إيرانيا من تعاملات حقيقية، خاصة مع الخبرات الأمريكية المتراكمة للولايات المتحدة في التعامل مع إيران، بصرف النظر عن توجهات الإدارة الأمريكية الراهنة أو السابقة، والتي اعتمدت خيارا مختلفا شكلا ومضمونا، ومن ثم فإن إيران لن تجد من الآن فصاعدا فضاء سياسيا كبيرا للتحرك والمناورة الإقليمية والدولية، بل ستضيق الخيارات في نطاقها السياسي والاستراتيجي حتى مع إقدامها على إحياء دور الوسطاء الذين سيقومون بشراء النفط الإيراني محليا، ومن ثم يعيدون بيعه في الأسواق العالمية تحت ستار أنهم من القطاع الخاص الإيراني وليسوا تابعين للحكومة، حيث كانت إيران أسست "بورصة" في عام 2012، وهي التي يمكن استخدامها مستقبلاً من أجل عمليات التحايل التي يخطط النظام الإيراني للقيام بها، وفي مقابل ذلك سيستمر تأكيد مسئولي الإدارة الأمريكية خاصة مستشار الأمن القومي جون بولتون على أن إيران ستعود حتما للتفاوض، ولن تتحمل ما سيطبق من عقوبات رادعة وغير مسبوقة، وفي ظل تقييم أمريكي عام يضم الخارجية والمخابرات المركزية والدفاع بأن إيران ليس بمقدورها في الوقت الراهن وحال عدم الاستقرار أن تملك بدائل ولو في الحدود الدنيا التي يمكن من خلالها العمل والمناورة، وهو ما سيفرض مزيدا من الضغوط الحقيقية على إيران في الفترة المقبلة.. وفي حال استمرار التظاهرات وتعدد مظاهر الخريطة الاحتجاجية المجتمعية، ومن ثم فإن الخيار الإيراني المقابل إما العودة للتفاوض أو الاتجاه للخيار الصفري أو الملاذ الأخير، بما يمثله من تحديات ومخاطر حقيقية على مستقبل النظام الإيراني بأكمله، وهو ما يدركه المسئولون الإيرانيون.
وبصرف النظر عن حجم الخلافات الراهنة بين مراكز القوى في النظام الإيراني ومدى ما يمكن أن تواجهه من خيارات للتعامل مع حرص كل طرف، خاصة قوات الحرس الثوري، على الاستمرار في السياسات نفسها رغم التكلفة الحقيقية الواردة، حيث لم يعد الأمر متعلقا بوجود معسكر للمعتدلين أو المتشددين أو المحافظين، فلم يعد هذا التصنيف صحيحا مثلما كان في مراحل معينة بعد أن استهدفت التظاهرات التي شهدتها بعض المدن الإيرانية مؤخرا الجميع، ولم يعد أحد محصنا من أي هجوم أو تحفظ، وهو ما يؤكد أن حال السخط العام في الشوارع الإيرانية ليست مقصورة على شريحة أو فئة معينة، بل توسعت لتشمل الجميع تقريبا.
مرحلة جديدة من المواجهات الأمريكية مع النظام الإيراني، ولن تكون هناك أية محاذير أو قيود على التحرك الأمريكي تجاه رأس النظام الإيراني ذاته، وعلينا أن ننتظر لنرى ولتبقى كل السيناريوهات الأمريكية محتملة للتعامل مع الحال الإيرانية بكل تعقيداتها الحالية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة