منذ ستينيات القرن الماضي وحاضرة الفاتيكان تعمل على إقامة الجسور مع العالم العربي والإسلامي بشكل خاص
ما أفضل تعبير يمكن أن يطلقه المراقب والمحلل لزيارة البابا فرنسيس إلى أرض الإمارات العربية المتحدة؟
قبل الإجابة على ذلك، ربما يتحتم علينا الإشارة إلى أن التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية في أوقاتنا المعاصرة تبدو غريبة، والسبب في ذلك هو أن العالم وبعد حربين عالميتين كبريين اكتشف أنه لا فائدة ترجى من وراء الصراعات، وأن الحروب وإقامة الجدران هما من الأسباب في صراع البشر، وعليه فقد فضل الكثيرون إقامة اتحادات واندماجات، واستبشر عالم الاجتماع الكندي الأشهر "مارشال ماكلوهان" في ستينيات القرن المنصرم برؤية العالم الجديد في شكل قرية كونية.
هل نبالغ إن قلنا إن أكبر جسر تمده الإمارات مع الطائفة الكاثوليكية في العالم، يفوق عددهم ملياراً وثلاثمائة مليون نسمة، هو السماح بإقامة أهم شعيرة في الديانة المسيحية "القداس" على أرض الإمارات بشكل رسمي وعلني خلال زيارة البابا؟ولعل الذين خبروا العيش في القرى يدركون المعنى والمبنى، حيث لا حواجز أو جدران فاصلة، ولا عراقيل معيقة للتواصل، بل جسور متصلة، وقد ولد في هذا الإطار الاتحاد الأوروبي والعديد من التجمعات الدولية، قبل حالة الردة والانتكاسة التي نشهدها مؤخراً، والعودة إلى المفاهيم التفكيكية والرؤى التفريقية.
تبدو جسور العالم في الآونة الأخيرة وكأنها تكاد تتحطم، وتبني عوضاً عنها الجدران المادية مثل الجدران الفاصلة بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، كما أن الجدار هو مثار الخلاف الأكبر حالياً في الولايات المتحدة؛ جدار ترامب مع الأمة المكسيكية.
أما الجدار الأخطر فهو ذاك الذي ينشأ في العقول والقلوب بداية، جدار تجاه الآخر، وعادة ما يكون منشأه دوغمائي عقائدي، قبل أن يكون أيديولوجي نسبي.
منذ ستينيات القرن الماضي وحاضرة الفاتيكان تعمل على إقامة الجسور مع العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، وعبر ستة عقود جرت في المياه زيارات وأحاديث، تصريحات ولقاءات، مفاهيم ومنطلقات عززت من التقارب الإسلامي المسيحي، في سياق أخوي وإنساني، الذي وفر على العالم الكثير من الصدامات.
بل إن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن لو استمع إلى نصائح البابا يوحنا بولس الثاني الكبير الراحل عام 2003، وامتنع عن غزو العراق لربما لم تكن تظهر جماعات إرهابية ظلامية من نوع داعش ومن لف لفه.
إن الجسور التي سعى الفاتيكان إلى إقامتها مع العالم هي عينها التي آمنت بها الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها، وهي الرؤية والفلسفة التأسيسية التي بُنيت عليها الإمارات.
يحضر البابا فرنسيس إلى الإمارات في زيارة تمثل وعن حق جسراً من المودات الإنسانية والروحية بين البشر عامة وبين أبناء إبراهيم خاصة، والبابا فرنسيس هو صاحب مواقف تقدمية لا ينكرها سوى جاهل أو غافل بالنسبة للإسلام والمسلمين، فالرجل وأكثر من مرة ينكر القول "إن الإسلام والإرهاب شيء واحد"، في تصريحات وأحاديث بابوية عالمية علنية، بل إنه يحذر من أن الإرهاب والتطرف والتعصب يولدان في البداية في العقل الإنساني ثم ينطلقان إلى الأرض.
الإمارات بدورها باتت تتملكها قناعة الجسور، لأنها المرادف الطبيعي للحياة والنماء، ما يطرح الموت والفناء الأدبيين والماديين بعيداً جداً، وربما هذا ما يمكن للمرء أن يستنتجه بسهولة ويسر من تصريحات وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، والذي أشار في تصريحات له لوكالة "اسوشيتد برس" إلى التأكيد على "أن زيارة البابا فرنسيس والتي تعد الأولى على الإطلاق لشبه الجزيرة العربية ستسهم في بناء الجسور، في وقت تتزايد فيه النزعة القومية والانعزالية في جميع أنحاء العالم".
كانت الإمارات ولا تزال وستظل منبراً للتسامح والتعايش السلمي في منطقة مضطربة، ومن هذا المنطلق جاء سعيها الحثيث لإقامة وزارة تهدف إلى بناء الجسور، وكسر الجدران التي يحاول البعض بناءها والاختباء وراءها.
إن التسامح في الإمارات ليس شعاراً طناناً رناناً فحسب، بل هو واقع معاش لدولة يصلي ويعيش ويعمل فيها أتباع الأديان والثقافات والمذاهب المختلفة من جميع أنحاء العالم، لا سيما من المسيحيين الذين يتوافر لهم أكثر من 45 مبنى كنسيا رسميا، يخدم جماعات مسيحية تنتمي إلى جماعات مسيحية متعددة، حسب تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأحد الماضي.
ويشهد تقرير الحريات الدينية في الأعوام الأخيرة بأن مؤشر الحرية في أداء الشعائر الدينية على أرض الإمارات كبير جداً، وتحظى برعاية الدولة ذاتها، كما أن الجهود الحكومية في مجال التسامح الديني تزداد يوماً تلو الآخر، خاصة في ظل قيادة إماراتية تؤمن وعن حق بأن التسامح والتصالح طريق لبناء الجسور، وأن المؤمنين أخوة، ولهذا جاء أمر ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد ببناء مسجد يحمل اسم "مريم أم عيسى" ويقع بالقرب من مجمع كنائس العاصمة أبوظبي.
هل نبالغ إن قلنا إن أكبر جسر تمده الإمارات مع الطائفة الكاثوليكية في العالم، يفوق عددهم ملياراً وثلاثمائة مليون نسمة، هو السماح بإقامة أهم شعيرة في الديانة المسيحية "القداس" على أرض الإمارات، بشكل رسمي وعلني خلال زيارة البابا، ما يعد هدية غير مسبوقة، وعلامة تسامح ووحدة على أعلى مستوى ممكن؟
بالقطع هذه أكبر إشارة يمكن للمرء أن يفهم مغزاها ومبناها بالنسبة لمجتمع متسامح يطور من رؤيته يوماً تلو الآخر، ويطرح أفكاراً تقدمية وإنسانية لبناء مجتمع بشري يقفز على الأصوليات والظلاميات، تلك التي تعشق الحياة والموت خلف الجدران.
من أفضل التصريحات التي استمعنا إليها الأيام الماضية كان ذلك الذي صرح به "بول هندر أسقف جنوب شبه الجزيرة العربية الإمارات وسلطنة عمان واليمن"، وقد كان السؤال إذا كان الإسلام لا يتوافق مع حقوق الإنسان من قبل البعض، وجاء رد الأسقف الكاثوليكي كالتالي "نظراً لأنني عشت في بلد إسلامي لأكثر من عقد من الزمان فأنا أخالفك الرأي، ذلك أن الكثير من الممارسات الثقافية والتقليدية التي لا علاقة بها بالإسلام تكاد تحسب من صميم الدين نفسه، وهذا هو الخطأ الأكبر".
زيارة البابا تقيم جسراً مع المؤمنين بجدوى الحوار والجوار والإخوة الإنسانية، جسر يقي العالم شرور التمزق والتمذهب، ويباعد شبح الصراعات الدينية والطائفية.
المستقبل للجسور، ولا مكان للجدران في العقول أو القلوب، هذا إذا أردنا الحياة في عالم الأحياء، عالم الأحباء، لا الأعداء.
الخلاصة.. المحبة لا تسقط أبداً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة