الجميع يتفق على أن ردع إيران لا يمكن أن يحدث من خلال المؤتمرات أو الخطب الدعائية، لكن من خلال مواقف أصيلة غير مزعزعة
على الأراضي البولندية التي شهدت الانطلاقة الأولى لنهاية الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية، ومنها طار السهم الأول الذي رشق في صدر الاتحاد السوفيتي ليصرعه خلال بضع سنوات، انطلقت أعمال قمة "الأمن والسلم في الشرق الأوسط"، وهو عنوان عريض وواسع، ورغم واقعية وحاجة المنطقة لسلام ناجز وفاعل، إلا أن التحديات تطرح ظلالا كثيفة على فرص نجاحاته.
وتشارك في أعمال المؤتمر نحو ستين دولة من كافة أرجاء العالم. وفي تحول واضح وملحوظ، كان وزير الخارجية مايك بومبيو قبل أن يبدأ المؤتمر بساعات يتحدث إلى قناة العربية بالقول: "إن المؤتمر لن يركز بشكل أساسي على عملية السلام، لكنه سيتناول مختلف التحديات الإقليمية بهدف تقوية التحالفات والشراكات الإقليمية" .
ما يجب الالتفات إليه هو أن الرئيس ترامب يحاول الاقتراب -ولو ظاهريا- من منطقة الشرق الأوسط عبر مقاربات دولية أممية لا يقدم فيها دوراً أمريكياً واضحاً، الأمر الذي عجز عنه من قبل سلفه الرئيس أوباما، ذاك الذي فضل طرح القيادة من وراء الكواليس
حسناً، إن تصريح السيد بومبيو رجل الدبلوماسية الأمريكية والقادم من عالم الاستخبارات الأمريكية، يعني أن الرجل على يقين بأن السلام في الشرق الأوسط ربما يكون بعيد المنال عن الأعين والأذهان، لا سيما في ظل وجود تحديات وعقبات هو أفضل من يعرفها.
غير أن الواقع يقتضي منا مساءلة الحضور في وارسو: هل النية صادقة بالفعل في مد يد العون للشرق أوسطيين من أجل إعادة بناء منطقتهم على أسس توفر لهم سلام اليوم، وللأجيال القادمة اطمئنان الغد، أم أن الأمر برمته فصل جديد من فصول التشارع والتنازع لتقسيم العالم مرة أخرى بين أقطاب قائمة وأخرى قادمة، وبخاصة في ضوء الحضور غير المسبوق لروسيا الاتحادية، والنفوذ الذي اكتسبته يوماً تلو الآخر خلال الأعوام القليلة المنصرمة، عطفا على الانتشار البراجماتي الصيني لتحقيق شكل حداثي في العلاقات الدولية؟
الشاهد أن المؤتمر يمكن وعن حق أن يضحى انعطافة استراتيجية في مآلات المنطقة وتاريخها، وربما سيذكر التاريخ للرئيس ترامب تلك المبادرة أن قدر للمؤتمر الخروج بنتائج وقرارات ملموسة وفاعلة على الأرض.
وما يجب الالتفات إليه هو أن الرئيس ترامب يحاول الاقتراب -ولو ظاهريا- من منطقة الشرق الأوسط عبر مقاربات دولية أممية لا يقدم فيها دوراً أمريكياً واضحاً، الأمر الذي عجز عنه من قبل سلفه الرئيس أوباما، ذاك الذي فضل طرح القيادة من وراء الكواليس. ولهذا ذهبت فكرة تجرؤه على الأمل أدراج الرياح، بل جاءت برياح مسمومة هبت على العالم العربي، تحت شعار سيئ أطلق عليه الربيع العربي، ولم يكن إلا شتاء قارسا، وها هي دول المنطقة تعاني من تبعاته حتى الساعة وإلى أجل غير معروف.
السؤال الآن: إذا كان الهدف الأول والرئيس مواجهة تلك التحديات، فإن الحديث عن إشكاليتين أساسيتين يضحى أمرا لا بد منه .
البداية ولا شك من عند إيران، تلك العقبة التي تعاني منها المنطقة عبر أربعة عقود، ولا تزال طهران تستمر في مناوراتها الداخلية والخارجية، وعلى غير المصدق متابعة آخر تطورات مشهد الصواريخ الباليستية الإيرانية، بذريعة برنامج دفاعي مرة، وبرنامج فضائي مرة أخرى. والقاصي والداني يعلم علم اليقين أن إيران غير صادقة في الحالتين.
إن إيران عنصر الإرباك في المنطقة، قد نجحت طوال العقود الأربعة الأمريكية في توسيع رقعة حضورها ونفوذها، عبر وكلاء حرب ومليشيات لا تخفى على أحد، وفي يقين لتصدير ثورتها الدوجمائية، وليس سرا أن بعضا من ذلك النفوذ قد تم العمل عليها تحت أعين الأمريكيين على نحو خاص، وغض طرف واضح وفاضح من إدارات أمريكية متعددة بدأت من عند "رونالد ريجان" وفضيحة "كونترا جيت"، إلى باراك أوباما وكارثة الاتفاق النووي الذي خيل له أنه من خلاله سيكتب اسمه لاحقا في سجل القياصرة الأمريكيين، وعلى الراغب في المزيد الاطلاع على كتاب "حلف المصالح المشتركة" للكاتب والباحث الإيراني الأصل الأمريكي الجنسية "تريتا بارزي"، حيث سيجد من الحقائق ما يدفعه لوضع علامات استفهام مستقبلية تتصل بقمة وارسو.. ما المقصود بذلك؟
والجميع يتفق على أن ردع إيران لا يمكن أن يحدث من خلال المؤتمرات أو الخطب الدعائية، لكن من خلال مواقف أصيلة غير مزعزعة، ومن دون توافقات سرية بين الأمريكيين والإيرانيين. وذلك لا يعني أننا نطالب العم سام بالدخول في حروب مع الملالي، بل نسعى نحو بلورة رؤية استراتيجية تقلص من مخاطر نظام دكتاتوري متمرس يجيد فن التفاوض، وأحيانا ما ينخدع ساكن البيت الأبيض بما يقدمه الأخير، ضمن سياقات مذهب التقية الشهير للإيرانيين .
وفي شأن الملف الإيراني بنوع خاص يبقى سؤال يفرض نفسه على ساحة النقاش: هل يمكن للأمريكيين بمفردهم التعاطي مع إيران ولجمها في الحال والاستقبال في حين تزايد الصين وروسيا على دعمها في ضرب من ضروب المكايدة السياسية التي لا تخفى على أحد؟
القضية الثانية والرئيسية في تحديات الشرق الأوسط، والتي تجاوزت العقود السبعة، هي القضية الفلسطينية، وما يدور من حولها على شقين: الفلسطيني الداخلي من ناحية، والأمريكي والصفقات المزعومة من جانب آخر.
على عتبات وارسو، تتضارب التصريحات عما سيحدث بشأنها، وهل هو مجرد تبادل آراء، أم استشراف آفاق ينتج عنه توجيهات شبه نهائية. وفي هذا غموض غير بناء، وفوضى غير خلاقة، تفتح المجال لتعميق الإشكاليات في المنطقة وتعزز من مسارات الكراهية لا السلام أو الوئام بين الشعوب، فالقضية الفلسطينية ليست مجرد إشكالية سياسية، إنها قضية مقدسات أمم وشعوب وأديان، وسردية من البكائيات المرة لشعب عانى ولا يزال يعاني.
أما عن الجانب الفلسطيني فحدّث ولا حرج عن الانقسام في الروح الفلسطينية الواحدة، لا سيما بعد المشهد المؤلم الذي جرى في موسكو الأيام الفائتة حين قررت الفصائل الفلسطينية التي شاركت في اجتماع احتضنته العاصمة الروسية، إلغاء بيان ختامي مشترك متفق عليه في البداية وسحبه من التداول، والسبب هو اختلاف وجهات النظر بين أبناء الشعب الواحد.
يرفض الفلسطينيون الذهاب إلى وارسو رفضا لمقدرات صفقة القرن المزعومة، في حين يمضي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومعه من الحلفاء الكثيرين، الأمر الذي يعيد التذكير بعدم مشاركة الوفد الفلسطيني في مباحثات "مينا هاوس" في القاهرة في زمن الرئيس السادات، وكأننا شعوب لا تتعلم من أحاجي التاريخ ومن مآسي الإنسان.
جيدة للغاية مبادرة وارسو للرئيس ترامب، لكن الأنفع والأرفع للشرق أوسطيين، هو مخرجاتها وإلى أين تمضي، وغدا لناظره قريب، دعونا ننتظر ونرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة