لم تترك الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية أو ديمقراطية، منذ عقود من الزمن سبيلا إلا وسلكته بهدف تشكيل وسائل ضغط على الصين
وابتزازها ودفعها إلى تقديم تنازلات في ملفات، ظاهرها فني وتقني وحقوقي وباطنها سياسي – اقتصادي بامتياز. نادت بضرورة امتثال الصين لمقتضيات ومتطلبات "حقوق الإنسان" وتفرعاتها غير المحدودة دون أن تتمكن من الوصول إلى أهدافها السياسية المضمرة بين ظهراني ادعاءاتها، فرضت عقوبات على قطاعات اقتصادية وتكنولوجية وتجارية ولم تحصد ثمار ما كانت تسعى إليه، فلوّحت بالمزيد، انتهجت أساليب استفزاز عملية عبر نافذة تايوان، فعالجت بكين محتوى زيارة بيلوسي في أغسطس – آب الماضي بردود ورسائل منضبطة.. لكن ماذا بالنسبة للقطاع التكنولوجي الصيني المزدهر؟ هو ملف يقض مضاجع صانعي السياسة والمختصين الأمريكيين في قطاعي السياسة والتكنولوجيا على حد سواء، فماذا عساهم فاعلون في مواجهة هذا التحدي؟
منذ أربعة أعوام أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية حربها الاقتصادية ضد الصين وشملت جميع مرافق هذا القطاع. مطلع شهر أكتوبر تشرين أول الماضي كشفت عن حزمة عقوبات تستهدف قطاع التكنولوجيا الصيني بقرارات حظر متعدد الوجوه لن يسلم منها الأمريكيون أنفسهم، شركات ومؤسسات وأفراد، حيث فرضت قيودا جديدة على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة وعلى معدات تصنيع الرقائق وعلى مكونات الكمبيوتر الأكثر تطورا إلى الصين، ووفقا لما تسرب من بنود قرار المحظورات الجديد فإن ضوابط التصدير الأمريكية تنطبق بشكل أساسي على العناصر ذات المنشأ الأمريكي، وعلى العناصر غير الأمريكية التي تم تصنيعها باستخدام التكنولوجيا الأمريكية.
ليس من شك في أن سلوك الإدارة الأمريكية ، من حيث النتيجة ، ينطوي على أبعاد استراتيجية وغايات سياسية ، وهي تخوض هذه اللعبة مع غريمتها بكين وفي نيتها الوصول إلى أهدافها بعيدة المدى على المستويات كافة؛ فإما احتواء الخصم ومنعه من التربع على قمة الاقتصاد العالمي وما يعنيه استتباعا من هيمنة سياسية منافسة للولايات المتحدة ، وإما استخدام وسائل لتعطيل مشاريعه المزدهرة اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا عبر تجفيف مصادر تزويده بأدواتها ومكوناتها، وفي كلا المسارين لا تبدو واشنطن قادرة على ضبط إيقاع أي منهما كما تخطط وترغب حتى الآن ليس لضعفٍ يعتريها ، بل ربما يصح القول بأن ضبابية النهج المتبع من قبل الإدارة الأمريكية ، وتَلوُّن مواقف كبار مسؤوليها حيال طبيعة العلاقات المنشودة مع الصين تسهم في تكدس المعضلات أمامها .
على الجانب الآخر لم يظهر أي ارتباك أو اضطراب على نهج وسياسة بكين في سياقات الصراع جميعها السياسية، والاقتصادية والتجارية والتكنولوجية.
تمسكت القيادة الصينية برموز سيادتها كافة في الجيواستراتيجيا وفي الجيواقتصاد وفي الجيوسياسة، وأبدت انضباطا مدروسا في ردها على الاستفزاز الأمريكي بكل أشكاله، وسدت الذرائع حين تعلق الأمر بأكثر نقاط التوتر المحتملة سخونة وتفرعا، أي تايوان. التباين بين النهجين الصيني والأمريكي في إدارة الصراع أو "التنافس" كما يحلو للرئيس جو بايدن تسميته، يتأتى من محددات كل طرف واستراتيجيته في حماية مصالحه، وصون مكانته، ومن ركائز سياسته وطبيعة الأهداف التي يرنو إلى تحقيقها.
الأمريكيون ينطلقون من مسلمات سياسية – تاريخية من وحي شعورهم المتعاظم جراء الهيمنة الأحادية على العالم منذ تفكك عدوهم القطبي السابق الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود ونيف، مشفوعاً ، هذا الشعور ، بإمكانيات اقتصادية هائلة ومتعددة المصادر والموارد، إضافة إلى مرتكزات قوة عسكرية غير مسبوقة في التاريخ منتشرة في أربع جهات الأرض، واستنادا إلى تلك المحددات ؛ تسعى إلى إحداث تغييرات معينة في سلوك الصين من أجل مصالحها الأمنية والسياسية والاحتفاظ بالهيمنة بأي طريقة كانت ، وهذا الهدف لا يتحقق إلا في حال اتبعت واشنطن أساليب ضغط متعددة ضد الصين تحت عنوان "حماية الأمن القومي الأمريكي" وهذا السبيل دونه الكثير من العقبات والمخاطر.
الصينيون يدركون حجم الضغوطات الأمريكية المتنامية ضدهم ويتحسّبون لما ستجلبه من متاعب ومعوقات أمام طموحاتهم، لكنهم يستثمرون في الإمدادات التي تزودها بهم شرايينهم الاقتصادية والتجارية المنتشرة في عموم دول العالم وتعود عليهم بالمواد الخام الصالحة لصناعاتهم المتنوعة وعلى رأسها التقنية والتكنولوجية، وظلوا يحافظون على علاقات متوازنة مع شركائهم ومع خصومهم على قاعدة المنفعة والمصالح المتبادلة.
مهما تكن الأضرار المترتبة على الصراع القائم مع واشنطن فإن بكين تضعه في سياقه الاقتصادي والتجاري الصرف بحيث تحرم واشنطن من استغلاله سياسيا أو عسكريا، وتطيح بنظرية "الاحتواء" التي تروج لها واشنطن.. جزء من معضلة واشنطن يعود إلى مواقف غربية وأخرى آسيوية حليفة للولايات المتحدة غير مستعدة لدعم مغامرة أمريكية ضد الصين على حساب مصالحها الحيوية، التجارية والاقتصادية والتكنولوجية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة