إذا أخذنا الزاوية، التي يرى منها بعض النخبة في موسكو الحرب في أوكرانيا، فإن الفارق بين "هزيمتها" و"سحقها" غير منظور أصلا.
كلاهما بالنسبة لروسيا الشيء نفسه. وهذا مما لا يتوافق مع الواقع.
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يرى أن الفارق معتبرٌ. قال في تصريحات لصحيفتَي "لوجورنال دو ديمانش" و"لوفيغارو" وإذاعة "فرنسا الدولية"، إنه وإنْ كانت "هزيمة روسيا" في أوكرانيا مطلوبة من أجل العودة إلى المفاوضات، لكن "سحق روسيا" لم يكن موقف فرنسا قط ولن يكون كذلك أبدا.
هذا القول لا يُبطل الدعاوى القائلة "إن الغرب يريد تدمير روسيا"، فحسب، ولكنه يُبطل أربعة أخماس الدوافع، التي قادت إلى الحرب أيضا.
الحرب العالمية الأولى هي التي علّمت الغرب الدرس.. عندما هُزمت ألمانيا في هذه الحرب، تعمد المنتصرون "سحقها"، فأجبروها على دفع تعويضات "مُهينة".. فكانت النتيجة هي اندلاع حرب عالمية ثانية من ألمانيا صارت أشد هَولا من الأولى.
الدرس صار ثمينا، لأن تعلمه كان باهظ الثمن. وهو أنك، وإن كنت تريد أن تهزم الطرف الآخر في أرض المعركة، ولكن لا تسحقْه في أرضه!
ومن هذا الدرس نشأ "مشروع مارشال"، لإعادة بناء ألمانيا بدلا من "سحقها"! ومن هذا الدرس تعلمت البشرية جمعاء أن المنتصر لا يكتمل انتصاره إلا بأن يمد يد العون للمهزوم، بل وأن يتنازل له عن فائض ما كسب. فيحل السلام ويدوم التعايش.
لو كان الغرب يريد "سحق" روسيا، فقد كان بوسعه أن يفعل ذلك في عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفييتي، وعندما خرجت حزمة من الجمهوريات الخاضعة لموسكو لتمارس "استقلالها".. كانت تلك لحظة فاصلة في التاريخ.. ولكن الغرب اختار فيها:
1ـ أن يتغاضى عن نفوذ روسيا في الجمهوريات الآسيوية السوفييتية السابقة.
2ـ أن يمنحها مقعد الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن.
3ـ أن يجعلها عضوا في نادي الدول الصناعية السبع، فأصبح النادي مؤلفا من ثماني دول.. وهو ناد غربي، بدلالة أن الصين ليست عضوا فيه، رغم أنها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم.
4ـ استثمرت الشركات الغربية في روسيا مئات المليارات من الدولارات، وفتحت فروعا لها، فوفرت وظائف لعشرات الآلاف من المواطنين الروس.. وفُتحت لروسيا أبواب التجارة مع العالم الغربي، كما فُتحت لها أبواب المصارف لتقترض مئات المليارات من الدولارات.
5ـ أن يمنحها عضوية مراقب في اجتماعات الحلف الأطلسي، لترى وتدرك أنه حلف دفاعي محض.
6ـ أن يجعل الحوارات الثنائية مع الرئيس الروسي واحدا من أعلى الاهتمامات، مما سهل التوصل إلى اتفاقات الحد من انتشار الأسلحة النووية، والرقابة المتبادلة، وخفض الصواريخ.
7ـ أن تكون جزءا من كل مؤسسات التعاون والشراكة الأوروبية.
لقد شاءت إرادة شعوب دول البلطيق (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا)، بتأثير من الصلات التاريخية مع أوروبا، أن تميل إلى الاتحاد الأوروبي وتلتحق بالحلف الأطلسي.. فلم تتخذ موسكو حيال هذا الأمر موقفا عدائيا، مثلما جرى مع أوكرانيا، التي اختارت في عام 2014 أن تأخذ بالوجهة الأوروبية.. ولكن هذه المرة قامت القيامة.
الغالبية العظمى من الأوكرانيين وجدت في الالتحاق بالسوق الأوروبية فرصة اقتصادية وثقافية وسياسية.. وحتى عندما قررت روسيا "استعادة" شبه جزيرة القرم، فإن التحالف الغربي، وإنْ فرض عقوبات طفيفة على روسيا واعتبر اجتياح القرم بالقوة العسكرية ضربة لقواعد الثقة وللروابط التي نشأت من بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن هذا التحالف ظل ينظر إلى الأمر على أنه "نزاع ثنائي" بين موسكو وكييف، وظل يتوسط من أجل إيجاد حل له.
ألمانيا، في المقابل، عززت الروابط مع روسيا إلى درجة جعلت من نفسها رهينة للغاز ولصادرات الطاقة الروسية الأخرى.. كان ذلك أمرا له مغزاه.. وهو يعني أنه حتى بعد كسر قواعد الثقة، فإن فرص الترابط لم تتهدم.
الفارق، الذي يضعه الرئيس ماكرون بين "السحق" و"الهزيمة"، معتبرٌ، ليس لأنه يتعلق بهذه الحرب وحدها، بل لأنه درس من دروس التاريخ أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة