الإمارات من أولى الدول التي بادرت إلى تجديد الخطاب الديني، وشعبها هو الأكثر انضباطا في تعامله مع المسألة الدينية
أيام قليلة تفصلنا عن الزيارة التاريخية المرتقبة للبابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة تلبية لدعوة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي بغية المشاركة في حوار عالمي بين الأديان حول "الأخوة الإنسانية"، ولعل مرد تاريخية هذه الزيارة أنها ستكون الأولى من نوعها لأسقف روما ورأس الكنيسة الكاثوليكية وسيد دولة الفاتيكان إلى منطقة الخليج العربي، فعلى الرغم من أن عدد البابوات المنتخبين بلغ مائتين وخمسة وستين بابا وفق القائمة الرسمية، فإن أيا منهم لم يفكر في زيارة منطقة الخليج العربي أو يلبي الدعوات المتكررة لزيارة المنطقة إلى أن قرر البابا السادس والستون بعد المائتين أن تكون أبوظبي هي أول مدينة خليجية تطأها قدما الحبر الأعظم واختار أن تكون الإمارات هي الدولة التي تحظى بشرف الزيارة الأولى لخليفة القديس بطرس للجزيرة العربية، ولا شك أن هذا الاختيار لم يكن وليد الصدفة ولم يأتِ من فراغ، وهنا فإن السؤال الذي يتبادر فورا إلى الذهن هو: لماذا اختار بطريرك الغرب أبوظبي في هذه الزيارة التاريخية للخليج العربي؟
الإمارات من أولى الدول التي بادرت إلى تجديد الخطاب الديني، وشعبها هو الأكثر انضباطا في تعامله مع المسألة الدينية، لذا لم تشهد أي موجات من التطرف العنيف أو الإرهاب، يضاف إلى ذلك تصديها الفوري والحاسم لأي محاولات لتسييس الدين أو تأويل النصوص الدينية
بداية يمكن القول إن زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية تمثل دليلا جديدا على الدور الحضاري لدولة الإمارات وقادتها في نشر قيم التسامح والتعايش بين الأديان، وهي القيم نفسها التي يتبناها بابا الكنيسة الكاثوليكية ويسعى لتعزيزها باعتبارها تمثل نهجا أكثر عمقا وأمضى أثرا في التعامل مع كثير من الاضطرابات وحل كثير من المشاكل التي تعج بهام مناطق عدة في العالم، وفي تقديري كانت هناك أسباب خمسة رئيسية وضعت أبوظبي في قلب هذا الحدث التاريخي:
أولا: أن الإمارات أضحت نموذجا مثاليا للمجتمع المتعدد الذي تتعايش على أرضه جميع الديانات والجنسيات والأعراق في انسجام كامل ووئام تام وسلام دون أي منغصات، ففي الإمارات تلتقي حضارات الشرق والغرب وتتعانق جميع الديانات، وأثبتت الإمارات أنها من أفضل الدول التي تبنت سياسات فعالة وناجحة لإدارة التنوع والاختلاف الموجود على أراضيها وبين قاطنيها بشكل أصبحت معه مثالا يحتذى في كيفية جعل التنوع بين السكان مصدرا للقوة لا سببا للخلاف، فلا يلحظ الزائر للإمارات وجود أي فارق بين مواطن أو وافد أو بين عربي وغير عربي أو تمييز أتباع ديانة معينة على أتباع غيرها أو جنسية بعينها على ما عداها، فالجميع أمام القانون سواء، والفضل في ذلك يعود إلى ما اتبعته الإمارات من سياسات في هذا الشأن ترجمت في كثير من القوانين والقرارات والإجراءات التي آتت أكلها ورسخت نهجا في إدارة التنوع أصبح مسجلا باسم الإمارات.
ثانيا: أن الإمارات انطلقت في تعاملها مع قضية التسامح لا باعتبارها تجميلا وترفا بل باعتبارها أساسا لنهضتها ومرتكزا لسلامة وترابط نسيجها المجتمعي، لذا ربما كانت الإمارات هي الدولة الوحيدة في العالم التي لديها وزارة ووزير للتسامح، وجعلت من عام 2019 عاما للتسامح، وتبنّت رسميا برنامجا وطنيا متكاملا للتسامح يعمل ضمن خمسة محاور رئيسية ترتكز على: تعزيز دور الحكومة كحاضنة للتسامح، وترسيخ دور الأسرة المترابطة في بناء المجتمع، وتعزيز التسامح لدى الشباب ووقايتهم من التعصب والتطرف، وإثراء المحتوى العلمي والثقافي، والمساهمة في الجهود الدولية لتعزيز التسامح وإبراز الدور الرائد للدولة في هذا المجال، كما يتضمن البرنامج الوطني للتسامح العديد من المبادرات الطموحة التي سيُحدث تنفيذها فارقا كبيرا، منها مبادرة صوت التسامح، التي تقوم على اختيار أفراد من مختلف شرائح المجتمع لنشر قيم التسامح ونبذ العنصرية والكراهية، ومبادرة إنشاء مجلس المفكرين للتسامح، الذي سيضم الجهات ذات العلاقة، بالإضافة إلى نخبة من أهل العلم والخبرة والفكر والاختصاص، الذين سيعملون على المساهمة في وضع السياسات والاستراتيجيات التي تعزز التسامح واحترام التعددية الثقافية وتنبذ العصبية والكراهية والتطرف، فضلا عن دور المجلس في تقديم المبادرات التي ستعزز التسامح وتنشر قيمه ومبادئه محليا وإقليميا ودوليا، ومن ضمن المبادرات أيضا برنامج المسؤولية التسامحية للمؤسسات، الذي يعد البرنامج الأول على مستوى العالم، ويهدف إلى نشر قيم التسامح في الجهات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، وذلك من خلال الالتزام بمعايير ومؤشرات محددة تعزز التسامح والتعايش وتروج له، وتنبذ الكراهية والعنصرية والتفرقة على أساس الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو العرق، ومن بين المبادرات الطموحة أيضا المزمع إطلاقها الميثاق الإماراتي في التسامح والتعايش والسلام، وهو بمثابة مجموعة من المواثيق المرتبطة بالمواطن والمقيم والمعلم والطالب والموظف، والتي تهدف إلى تعزيز التسامح والتعايش وقبول الآخر واحترام التنوع الثقافي، ونبذ العنف والتطرف والعنصرية، بالإضافة إلى إنشاء مركز الإمارات للتسامح، الذي سيعنى بإعداد الدراسات والبحوث المختصة، التي ترتكز على تأصيل وتعزيز التسامح واحترام الآخرين وضمان استمراريته في المجتمع، بالتوازي مع رصد كل أشكال العصبية والكراهية والتطرف وعدم قبول الآخر، فضلاً عن دور المركز في توفير المحتوى العلمي والثقافي حول التسامح وأفضل ممارساته في حياتنا اليومية.
ثالثا: أن الإمارات في تعاطيها مع فضيلة التسامح لم تسع فقط إلى ترسيخها محليا والاكتفاء بإرسائها داخل حدودها وزرعها بين قاطنيها، بل سعت ولا تزال إلى نشر هذه القيمة الكبيرة في ربوع المنطقة العربية وبقية دول العالم، استشعارا لحقيقة أنه لا يمكن العيش بأمان واستقرار في ظل محيط مضطرب، وكان هذا أحد منطلقات سعي الإمارات لنشر قيمة التسامح إقليميا ودوليا وتعميم تجربتها وحرصها على أن تخرج من نطاقها المحلي الناجح إلى آفاق أرحب وأوسع، يضاف إلى ذلك أن الإمارات استشعرت أنها شريك في صناعة هذه الفضيلة باعتبارها من قيم الآباء المؤسسين للدولة وعلى رأسهم الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لذا أصبحت من أكبر داعميها والمروجين لها، ولم تكتفِ بأن تكون مجرد مستهلك أو مستورد لها.
رابعا: أن الإمارات من أولى الدول التي بادرت إلى تجديد الخطاب الديني، وشعبها هو الأكثر انضباطا في تعامله مع المسألة الدينية، لذا لم تشهد أي موجات من التطرف العنيف أو الإرهاب، يضاف إلى ذلك تصديها الفوري والحاسم لأي محاولات لتسييس الدين أو تأويل النصوص الدينية، ودائما ما تتخذ موقفا حازما وحاسما لا لبس فيه أو تردد من الإرهاب، فهي تدينه بشدة وترفض أي تسامح أو تهاون أو تعاطف أو لين معه، ولهذا لا تتوانى عن إعلان موقفها بسرعة وبكل وضوح من أي عمل إرهابي أينما كان، حتى لو كان في أبعد نقطة من حدودها أو أبعد دولة عن مصالحها، ولعل آخر مثال على هذا النهج والمنهج هو إدانة الإمارات أول أمس الهجوم الإرهابي الذي نفذه انتحاري بسيارة مفخخة داخل فناء مدرسة شرطة سانتاندر العامة جنوب العاصمة الكولومبية بوجوتا، وأسفر عن مقتل وإصابة العشرات، حيث شدد بيان وزارة الخارجية الإماراتية على موقف الدولة الثابت والرافض لمختلف أشكال العنف والإرهاب، والذي يستهدف الجميع دون تمييز بين دين وعرق وأيا كان مصدره ومنطلقاته، كما دعت المجتمع الدولي إلى التكاتف لمواجهة خطر التطرف والإرهاب الذي يهدد أمن واستقرار الدول كافة، الإمارات كانت قد انتبهت مبكرا إلى أهمية إيجاد استراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب، لا تقتصر فقط على المعالجات الأمنية ولكن تتجاوزها نفاذا إلى جذور الظاهرة، كضرورة تجفيف المنابع الفكرية والثقافية التي تغذي التطرف وتحرّض على الكراهية على المستوى المحلي وعلى المستويين الإقليمي والدولي، ومن ثم كانت الإمارات من أوائل الدول التي دعت إلى ضرورة أن تواكب الحملات الأمنية ضد الإرهابيين، حملات فكرية تفنّد أكاذيبهم، وتكشف عن أهدافهم الحقيقية، إيمانا منها بأن الإرهاب لن ينهزم إلا بهزيمة الفكر الذي يحرض عليه، لذا كانت الإمارات من أبرز الدول الداعمة للمركز الدولي للتميز لمكافحة التطرف العنيف "هداية"، كما تعد من الأعضاء المؤسسين لمركز "صواب" الهادف لمواجهة أكاذيب "داعش" عبر الإنترنت وفضحها عبر إطلاق حملات توعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما يسهم في التصدي للخطاب المتطرف، كما تترأس الإمارات بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة مجموعة العمل المعنية بالتواصل الاستراتيجي التابعة للتحالف ضد "داعش".
خامسا: صارت الإمارات أكثر دول المنطقة امتلاكا لمؤسسات وهيئات تسعى لنشر قيم التسامح والتعايش، وأكثرها استضافة لأحداث وفعاليات تنشد تعزيز هذه الفضائل بما جعلها -عن حق- عاصمة عالمية للسلام والتسامح، ولعل من أبرز المؤسسات هنا "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة" الذي صار يلعب دورا محوريا في تعزيز قيم التسامح والتقريب بين الشعوب وترسيخ ثقافة الحوار بين الثقافات والديانات والحضارات المختلفة وإعلاء قيمة الإنسانية وفضيلة العيش المشترك وتعزيز السلم بين الشعوب كافة، كما تستضيف الإمارات وترعى مجلس حكماء المسلمين، الذي يهدف إلى تحقيق السلم والتعايش في العالم الإسلامي ومحاربة الطائفية، كذلك تستضيف المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، الذي يلعب دورا مهما في تنمية قيم المواطنة ودعم اندماج المسلمين في الدول غير المسلمة ليكونوا مواطنين فاعلين في مجتمعاتهم التي يقيمون بها، وذلك من خلال إيجاد قواعد وأصول وأحكام تعزز من قيم المواطنة والتسامح والتعايش المشترك ونبذ الإرهاب والتطرف، ولا يكاد يخلو شهر من شهور السنة من استضافة الإمارات لحدث دولي مهم ينشد نشر قيم التسامح، لعل أبرزها خلال العام المنصرم كان استضافة دبي في نوفمبر الماضي القمة العالمية للتسامح، التي نظمها المعهد الدولي للتسامح التابع لمؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، واستضافة أبوظبي في ديسمبر الماضي فعاليات الملتقى الخامس لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، الذي جاء تحت شعار "حلف الفضول- فرصة للسلم العالمي"، الذي جمع أكثر من 800 من أبرز رجال الدين وقادة الفكر من مختلف الديانات والجنسيات، في حدث يعكس بوضوح ما وصلت إليه دولة الإمارات من مكانة وما تبوأته من موقع أصبح يشار إليه بالبنان، باعتبارها أكبر حاضنة لقيم التسامح والسلم ونبذ العنف واحترام التعددية الثقافية والتعايش المشترك.
كل هذه الأسباب تجعل هناك انسجاما وتلاقيا بين رسالة الإمارات في تعظيم فرص الحوار بين الشعوب وما تدعمه من قيم المودة والتعاون وتقبل الآخر وما تسعى لترويجه من فضائل التآخي والتعايش السلمي، وبين رسالة بابا الفاتيكان الذي يعد رمزا عالميا من رموز السلام والتسامح وتعزيز روابط الأخوة الإنسانية، وتجعل من اختياره أبوظبي لتكون بوابته إلى دول المنطقة وشعوبها أمرا منطقيا، فالرسالة واحدة والهدف واحد.. فكل أصحاب النوايا الحسنة يجب أن يعملوا معا من أجل السلام والتعايش والتسامح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة