أصبحت فلسطين وسيلة كل انتهازي وفاشل لاكتساب الشرعية، وتسنم موقع الجدارة والاقتدار، واحتلال الصدارة في ركب العروبة والإسلام
لم يشهد تاريخ العرب والمسلمين قضية أكثر نبلاً من قضية فلسطين. قضية عدلها بيِّن، وظلمها واضح، والحق فيها لا يحتاج Yلى مراء أو جدال، الظالم والمظلوم فيها معروفان بدون التباس أو غموض. ولكنها هي القضية الإنسانية الأبرز التي تفترق فيها طرق الحق والقوة، وتتناقض فيها مسارات الشرعية والفعالية، فالحق في فلسطين لا تسانده قوة، والقوة في فلسطين صنعت لها حقاً بمنطق القوة، فصار واقعاً لا يستطيع أحد أن ينفيه، أو يتجاوزه، أو يدعي عدم وجوده. ومن هنا كانت قضية فلسطين مجمع المتناقضات، وملتقى المتعارضات، وكنزا لا يفنى للتبريرات والأعذار والادعاءات؛ التي يوظفها الانتهازيون والفاشلون من العرب والمسلمين من مشارق الأرض إلى مغاربها.
لم يلجأ لتوظيف شعار فلسطين إلا الفاشلون فشلا مزدوجا في خدمة أوطانهم وتحقيق طموحات وآمال شعوبهم، وفي دورهم في نصرة ودعم قضية فلسطين. فهي الكلمة الساحرة التي تلهب المشاعر، وتفتح القلوب، وتستمطر كل طاقات الغفران والنسيان والسماح لمن يرفعها
فمنذ افتراق طرق الحق والقوة في الصراع حول فلسطين، في مرحلة ما بعد اتفاقيات فض الاشتباك الأولى 18 يناير/كانون الثاني 1974، والثانية 1 سبتمبر/أيلول 1975 التي وقعتهما مصر وإسرائيل بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، منذ ذلك التاريخ صار الحق نظرياً، والقوة واقعا يفرض شرعية جديدة، قبل ذلك التاريخ لم تكن مصر تعترف بوجود الاحتلال، وبعده صنعت قوة الاحتلال حقاً واقعياً، لا ينكره إلا جاهل أو متعامٍ عن حقائق الواقع.
لقد أصبح وجود دولة إسرائيل حقيقة واقعية؛ بغض النظر عن الحق التاريخي في الوجود. هنا تحولت قضية فلسطين إلى مجال جديد للسجال بين العرب والمسلمين، تضخم هذا السجال وتزايد بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس عام 1977، وتحولت قضية فلسطين إلى شعار بعد أن كانت حقيقة، وأصبحت ورقة سياسية يوظفها كل من يريد أن ينتقم من خصومه، رغم أنه قد يكون أقلهم جميعاً وفاءً وخدمة لهذه القضية.
أصبحت فلسطين وسيلة كل انتهازي وفاشل لاكتساب الشرعية، وتسنم موقع الجدارة والاقتدار، واحتلال الصدارة في ركب العروبة والإسلام. فتم استخدام فلسطين لخدمة أهداف مستخدميها؛ الذين لم يخدمها أحد منهم، تم توظيفها لتبرير أفعال أبعد ما تكون عن نبل قضية فلسطين، فكانت مثل "قميص عثمان" رضي الله عنه، الذي تم توظيفه لتحقيق المجد القبلي الجاهلي لبني أمية على حساب الإسلام والمسلمين.
فبعد حرب عبثية تسببت فيها مغامرة أكثر عبثية باحتلال دولة الكويت؛ لم يجد صدام حسين فعلاً ليعيد له شرعية الوجود أكثر تأثيراً من توجيه عدة صواريخ سكود إلى فلسطين المحتلة. وفي المقابل أدرك قادة حزب الله اللبناني منذ انطلاقه في تسعينيات القرن الماضي أن رفع شعار فلسطين سوف يكسبهم شرعية الوجود، بل سيجعلهم على رأس العالم الإسلامي، فاستثمروا في شعار فلسطين حتى تمكنوا من عنق لبنان وقلب سوريا والعراق.
كذلك غطى النظام الإيراني جميع عوراته القبيحة، وفشله الشديد بشعار فلسطين والقدس، فكان الشعار ورقة التوت التي تستر سفك الدماء، ونهب الثروات، وتدمير الأوطان، وقيادة الشعب الإيراني إلى حالة الفقر المدقع، وإدخال الشيعة في مواجهة مع إخوانهم، كل ذلك تم ومازال يتم؛ وشعار فلسطين والقدس هو الدرع الواقية التي يحتمي بها النظام الإيراني، ويختبئ خلفها من شعبه، ومن طائفته، ومن جميع المسلمين.
لقد صارت فلسطين كلمة السر التي يوظفها الفاشلون للتغطية على مواطن فشلهم، وليحتلوا مراكز الصدارة التي لا يستحقونها، حيث تصبح فلسطين أهم الشعارات الانتخابية، وأهم الأفعال الرمزية التي لا تحتاج الا إلى خطب عصماء وتصريحات نارية، وهتافات ثورية ليكون الزعيم أو الرئيس أو الحزب في موقع الصدارة، والأحق بتصدر المشهد السياسي في بلده، وفي العالمين العربي والإسلامي.
والحقيقة أن التاريخ الحديث يثبت أنه لم يلجأ لتوظيف شعار فلسطين إلا الفاشلون فشلا مزدوجاً في خدمة أوطانهم وتحقيق طموحات وآمال شعوبهم، وفي دورهم في نصرة ودعم قضية فلسطين. فهي الكلمة الساحرة التي تلهب المشاعر، وتفتح القلوب، وتستمطر كل طاقات الغفران والنسيان والسماح لمن يرفعها، لذلك كانت هي أهم وسائل الحكام والدول الفاشلة من صدام حسين إلى نظام الملالي في إيران، إلى أردوغان وقبله نظام البشير في السودان.... إلخ.
يلجأ هؤلاء جميعا لتوظيف فلسطين للتغطية على مواطن فشلهم، لأنهم يعرفون أن المجتمعات العربية والمسلمة تعاني من حالة مزمنة؛ تغلب فيها العاطفة على العقل، تقترب بهذه المجتمعات من مرحلة الطفولة البشرية، التي تكون فيها العواطف أقوى، والأفكار أضعف، والمنطق غائباً غيبة كبرى، والمشاعر طاغية، والغرائز غالبة، هذه الحالة الطفولية لم تزل تعيشها مجتمعاتنا، لذلك يلجأ أولئك الفاشلون الى توظيف قضية فلسطين للتغطية على فشلهم، ولتبرير خيباتهم السياسية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه للنيل من خصومهم، من خلال إظهار أنهم مقصرون في حق فلسطين على مستوى الخطابة والشعارات والمظاهرات.
من يقرأ التاريخ العربي المعاصر بعمق سوف يكتشف الفارق الكبير بين من استخدم فلسطين ولم يخدمها، ومن خدمها ولم يستخدمها، وسيجد أن الصوت الأعلى للذين يستخدمونها لتحقيق مصالحهم الضيقة، أو الذين يتترسون بها، ويتخذونها درعاً في حروبهم الأيديولوجية والسياسية؛ حتى وإن كانت تلك الحروب في غير صالح فلسطين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة