هل تنجح محاولات "الوفاق" الليبية في الهروب إلى الأمام؟
مبادرة السراج لا يمكن التعويل عليها من أجل تحقيق مستقبل أفضل في ليبيا طالما ظلّت المليشيات المسلحة جزءا من المعادلة السياسية.
في ضوء النجاحات التي يحققها الجيش الوطني الليبي ميدانيًا في معركة طرابلس خلال مواجهة المليشيات المُسلَّحة المدعومة من حكومة الوفاق، قام فايز السراج رئيس حكومة الوفاق بطرح مبادرة في 16 من يونيو/حزيران الجاري تتضمن مجموعة من البنود والترتيبات السياسية والأمنية، وهو ما قوبل بترحيب من جانب الأمم المتحدة في مقابل رفض شديد من جانب الجيش الوطني الليبي الذي رفض أي تفاوض مع حكومة تدعم المليشيات في ليبيا.
المبادرة المقترحة
تضمنت المبادرة التي طرحها "السراج" عدة بنود من أجل البحث عن مَخرج للأوضاع المتفاقمة في ليبيا، ويمكن توضيح أبرز تلك البنود على النحو التالي:
أولًا: عقد ملتقى ليبي بالتنسيق مع البعثة الأممية، يتم فيه تمثيل جميع القوى الوطنية من مختلف المناطق الليبية ممن لهم التأثير السياسي والاجتماعي، والمؤمنين بالوصول إلى حل سلمي ديمقراطي، من أجل الاتفاق على خارطة طريق، وكذلك إقرار قاعدة دستورية مناسبة لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية العام الجاري.
ثانيًا: تسمية لجنة قانونية مختصة لصياغة القوانين الخاصة بالاستحقاقات التي يتم الاتفاق عليها، وتشكيل لجان بإشراف الأمم المتحدة، من المؤسسات التنفيذية والأمنية في كافة المناطق، لضمان توفير الإمكانيات والموارد اللازمة للاستحقاقات الانتخابية، بما في ذلك الترتيبات الأمنية الضرورية من أجل إنجاح ذلك.
ثالثًا: تفعيل الإدارة المركزية، والاستخدام الأمثل للموارد المالية، والعدالة التنموية الشاملة لكل مناطق ليبيا، مع ضمان الشفافية والحوكمة الرشيدة.
رابعًا: تدشين هيئة عليا تنبثق عن الملتقى الوطني، وإيجاد آلية لتفعيل قانون العدالة الانتقالية والعفو العام، مع رفع كفاءة الحكومة لتواكب الاستحقاقات الوطنية القادمة، وكذلك بناء مؤسسة عسكرية وأمنية على أسس ومعايير مهنية، يندمج فيها الجنود والثوار من كل أنحاء ليبيا.
ويمكن القول بأن أخطر ما تتضمنه تلك المبادرة هو رغبة "السراج" في دمج المليشيات في مؤسسة عسكرية وأمنية وكذلك حديثه عن العفو العام، حيث إن ذلك بمثابة خطوة غير مباشرة من أجل إدماج المليشيات المُسلَّحة المدعومة من حكومة الوفاق في الهياكل الأمنية للدولة، وضمان إفلاتهم من العقاب وهروبهم من أي محاكمات مستقبلية على جرائمهم بحق الشعب الليبي، بما يُعدّ كذلك محاولة من أجل الخروج من مأزق الضغوط الدولية المتزايدة لتقييم سلوك المليشيات وإدانة تعاون حكومة الوفاق الوطني معهم، وفي ذات السياق فهي محاولة من جانب "السراج" لاختراق الجيش الوطني الليبي بقيادة "حفتر"، إذا ما قَبل بأن تصبح تلك المليشيات جزءًا منه في حال تمّ إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، وهو أمر من المستبعد تحقُّقه.
ومن المفارقات أن مبادرة "السراج" تخاطب بشكل رئيسي القوى المؤمنة بالحل السلمي رغم أن قاعدة الدعم الرئيسية له هي مجموعة من المليشيات المُسلَّحة التي تتباين توجهاتها المتطرفة في حدّتها، خاصةً مع وصول العديد من المقاتلين الأجانب والمتطرفين القادمين من سوريا، وذلك عبر رحلات جوية تركية لهم، وبالتحديد العناصر المنتمية لجبهة النصرة، وهو ما أكده اللواء أحمد المسماري المتحدث باسم الجيش الوطني في على مدار الأسابيع الماضية، وبالتالي فإن تلك المبادرة تحمل بين طياتها العديد من التناقضات والمفارقات التي تُرجّح فشلها.
دوافع طرح المبادرة
يأتي توقيت طرح تلك المبادرة من جانب "السراج" في ظل النجاحات الميدانية التي يحققها الجيش الوطني الليبي باتجاه تحرير العاصمة طرابلس من قبضة المليشيات المُسلَّحة التي مُنيت بخسائر فادحة على مدار الأسابيع العشرة الماضية منذ بدء عملية "طوفان الكرامة" في 4 من أبريل/نيسان الماضي، وذلك رغم الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدمه تركيا، وكذلك التمويل الضخم الذي توجّهه قطر نحو محاولة إنقاذ المليشيات من هزيمة مُحقّقة في آخر معاقلهم في الأراضي الليبية، وبالتالي فقد جاءت تلك المبادرة كمحاولة من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات السياسية من جديد مع تأكُّد وحتمية هزيمة المليشيات التي تحتمي بها حكومة الوفاق أمام تقدم الجيش الوطني الليبي.
كذلك، فإن التوجُّس الرئيسي من جانب "السراج" وحكومته يرتبط بنجاح المشير "حفتر" في تحقيق مزيد من الاعتراف الإقليمي والدولي به خاصةً مع وجود تأكيدات على اقتراب زيارة "حفتر" إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد حاولت حكومة الوفاق موازنة ومعادلة الدعم الأمريكي المُعلن لعملية تحرير طرابلس، الذي تجلّى بالاتصال الهاتفيّ الذي تمَّ بين "ترامب" و"حفتر" في أبريل/نيسان الماضي، عبر قيام نائب رئيس حكومة الوفاق الليبية، أحمد معيتيق، بزيارة إلى واشنطن في الأسبوع الأول من يونيو/حزيران الجاري.
وقد التقى "معيتيق" ببعض المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية وأعضاء من الكونجرس الأمريكي، ولكنه فشل في اقتناص ضغط أمريكي على الجيش الوطني الليبي لإيقاف عملية تحرير طرابلس التي تعتبر عملية محورية في ظل ما سوف يتمخض عنها من واقع سياسي وعسكري جديد على الأرض، وهو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل العملية السياسية الليبية برمتها.
انكشاف التحيُّز الأممي
تأتي مبادرة "السراج" المقترحة، التي تتضمن دورا أمميا فاعلا، في ظل انكشاف تام للتحيُّز الأممي لصالح حكومة الوفاق من جانب وضد الجيش الوطني الليبي من جانبٍ آخر، وبالتالي فلم يكن مستغربًا أن تعلن الأمم المتحدة عن قبولها وترحيبها الشديد بالمبادرة عقب إعلانها بساعات قليلة، في ظل تقارب التوجهات بين "السراج" وبين المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا غسان سلامة.
وذلك في الوقت الذي اعتبر فيه المشير خليفة حفتر في تصريحات له في أواخر مايو/أيار الماضي أن مبعوث الأمم المتحدة تحوّل إلى "وسيط منحاز"، وأنه "يريد تقسيم البلاد"، خاصةً في ظل موقف "سلامة" الرافض لمعركة طرابلس؛ التي اعتبرها بمثابة بداية حرب طويلة ودامية، كما أنه قد أكد أمام مجلس الأمن الدولي أن ليبيا على وشك الانزلاق إلى حرب أهلية، في وقتٍ لم يقم فيه بمهاجمة تركيا أو تسميتها صراحةً، وهي لا تكف عن إرسال المتطرفين والإرهابيين إلى ليبيا، وكذلك تصدير الأسلحة المتطورة عبر ميناء طرابلس؛ التي كانت أبرزها في أواخر مايو/أيار الماضي وصول سفينة "أمازون" التركية إلى ميناء طرابلس قادمة من ميناء "سامسون" التركي، وذلك بالرغم من أن ذلك يعد خرقًا لقرار مجلس الأمن بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، وهو القرار الذي تم تجديده في 10 يونيو/حزيران الجاري بإجماع أعضاء مجلس الأمن.
وفي هذا الإطار فقد جاء رد الجيش الوطني على مبادرة "السراج" بالرفض التام، حيث أعلن العميد خالد المحجوب، مدير غرفة الكرامة التابعة للجش الوطني الليبي في 16 من يونيو/حزيران الجاري، أنه لا تفاوض مع المليشيات المُسلَّحة، وأن معركة تحرير طرابلس مستمرة حتى النهاية، واعتبر المحجوب أن تلك المليشيات هي العقبة الحقيقية أمام أي اتفاق سياسي، خاصةً أن هناك عدة لقاءات كانت قد تمت في السابق بين "حفتر" و"السراج"، وقد باءت جميعها بالفشل بسبب المليشيات وجماعة الإخوان.
وبالتالي، فإن مبادرة السراج لا يمكن التعويل عليها من أجل تحقيق مستقبل أفضل في ليبيا طالما ظلّت المليشيات المسلحة جزءا من المعادلة السياسية والأمنية، خاصة ً في ظل ما يحظون به من دعم من جانب حكومة الوفاق الوطني، وكذلك في ظل غضّ الطرف عنهم من جانب المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا غسان سلامة، وربما جاء إعلان الجيش الوطني الليبي برفض تلك المبادرة، ليدفع "السراج" للإعلان عن أنه غير مستعد للجلوس مع "حفتر" للتفاوض على إنهاء الهجوم على طرابلس، كمحاولة من أجل حفظ ماء الوجه أمام موجة الخسائر السياسية والعسكرية المتلاحقة على مدار الشهرين الماضيين.
ومجمل القول، فإن مبادرة "السراج" أشبه بحصان طروادة؛ حيث يناور ببنود تلك المبادرة من أجل تحقيق عدة أهداف؛ لعلَّ أبرزها منح شرعية للمليشيات المُسلحّة التي تحميه وإدماجها في الهياكل الأمنية من أجل القضاء على ورقة الضغط القوية التي يمتلكها "حفتر"، باعتباره مُوحّدا وقائد الجيش الوطني الليبي، وكذلك فإن "السراج" يحاول بدعم أممي الإيحاء للمجتمع الدولي بأنه رجل السلام المدعوم أمميًا في مواجهة "حفتر" الذي لا يعرف إلا لغة السلاح، بيد أن تلك الرغبة تصطدم بالانتقادات الدولية اللاذعة لـ"السراج" بتعاونه مع المليشيات المسلحة ومع مجموعة من المتطرفين والإرهابيين، وهو ما يجعل سيناريو إنهاء عملية "طوفان الكرامة" قبل تحرير طرابلس من قبضة المليشيات والقبول بالتفاوض حول بنود مبادرة "السراج" من جانب المشير خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي سيناريو مستبعدا بشكلٍ تام، لأن الطرف الأضعف لا يمكن أن يفرض شروطه على الطرف الأقوى سياسيًا وعسكريًا.
** أحمد عبدالعليم: باحث متخصص في الأمن الإقليمي