يبقى تقييم الأمم المتحدة محل جدل وخلاف. فأصحاب النظرة المثالية يرون أنها لم تُحقق أهدافها وأن عالم اليوم تكتنفه أخطار كبيرة.
إن مرور 75 عاماً على إنشاء الأمم المتحدة هي مناسَبة تستحق التوقف أمامها والتفكير في دلالاتها، وتقييم ما أسهمت به هذه المنظمة في حفظ الأمن والسلم على المستوى العالمي وخصوصاً في المنطقة العربية. فهذه المنظمة هي ثمرة انتصار دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، والمباحثات التي جرت في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي انعقد في 25 إبريل 1945 وما انتهى إليه من التوقيع على ميثاق المنظمة الوليدة. وتأخرت النشأة القانونية للأمم المتحدة إلى 24 أكتوبر عندما تم إعلان موافقة برلمانات أغلبية الدول المشاركة في المؤتمر، بما فيها الدول الخمس الكبرى على الميثاق.
كان الهدف المباشر من إنشاء الأمم المتحدة هو منع نشوب حرب عالمية ثالثة وتجنيب البشرية ويلاتها. وكانت تجربة عصبة الأمم التي نشأت عام 1920 في أعقاب الحرب العالمية الأولى حاضرةً في ذاكرة المشاركين في مؤتمر سان فرانسيسكو. فقد فشلت العصبة في منع الغزو الإيطالي للحبشة، والاحتلال الألماني للنمسا ولدول أوروبية أخرى، كما فشلت في فرض عقوبات على المعتدين مما أدى إلى تعطُّل أعمالها ثم إلى تصفيتها قانونياً عام 1946. وفي المقابل فإن الأمم المتحدة نجحت في منع قيام حرب عالمية ثالثة، واستطاعت التكيُّف مع الظروف الجديدة التي شهدها النظام الدولي بعد سنوات قليلة من إنشائها والتي خالفت الأسس التي قامت عليها المنظمة. وعلى سبيل المثال، افترض الميثاق استمرار علاقات التعاون بين الدول الخمس الكبرى المنتصرة في الحرب الثانية وهي أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، فمنحها العضوية الدائمة في مجلس الأمن وميَّزها بحق الفيتو أو النقض. ولكن سرعان ما بدأت "الحرب الباردة" بين واشنطن وموسكو وبين المعسكريْن الغربي والشرقي وتنافست الدولتان/المعسكران على كسب المؤيدين والمناصرين من دول العالم. واندلعت مواجهات حادة بين العملاقين من أبرزها أزمة حصار مدينة برلين 1948-1949، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. ومع ذلك، فقد انتهت هذه الأزمات بتراجع أحد الطرفين وعدم الانزلاق إلى هاوية الحرب.
وتسببت الصراعات بين القوتين العُظميين إلى نشوب حروب إقليمية لم تتمكن الأمم المتحدة من وقفها، ولكنها تدخلت لوقف القتال وقامت بجهود دبلوماسية لتهدئة النزاع، وأرسلت قوات أمم متحدة من أصحاب "القبعات الزرقاء" لحفظ السلام والفصل بين المتحاربين، وقد بلغ عدد الدول التي استقبلت هذه القوات 122 دولة وفقاً لتقرير الأمم المتحدة في إبريل 2019. وقام الأمين العام للمنظمة بإرسال "مبعوثين" عن الأمم المتحدة للتوسط في النزاعات والحروب الداخلية كما هو الحال الآن في ليبيا واليمن وسوريا. كما كان للأمم المتحدة دورها في حث القوى الكبرى على الحد من سباق التسلًّح في مجال الأسلحة الاستراتيجية وتوقيع اتفاقية لحظر وتدمير الأسلحة الجرثومية (البيولوجية) في عام 1972.
وإلى جانب قضايا حفظ الأمن والسلم التي يختلف المعلقون حول مدى فعالية دور الأمم المتحدة بشأنها، فقد كان لمنظماتها ووكالاتها المتخصصة جهود مشهودة في مجالات أخرى. ومنها دور منظمة اليونسكو في مجال حفظ التراث الإنساني، مثل ما قامت به في حفظ آثار النوبة المصرية وإنقاذها من الغرق بسبب إنشاء السد العالي في مصر، ودور اليونيسيف وهي المنظمة الدولية المعنية بشؤون الأطفال بتوفير الطعام والخدمات الصحية والمياه النظيفة لملايين الأطفال في دول العالم الفقيرة، ودور المفوَّضية السامية للاجئين في إغاثة ومتابعة أوضاع اللاجئين في العالم، وهو الدور الذي ازدادت أهميته بالنسبة لنا بعد استفحال عدد المهاجرين السوريين في الحقبة الأخيرة.
وكان للأمم المتحدة دور ريادي في محاربة الأمراض الفتاكة مثل الجُدري والدفتريا والتطعيم ضد مرض شلل الأطفال في كثيرٍ من الدول النامية. وكذلك في تنبيه العالم إلى أخطار التغيرات المناخية وضرورة العمل المشترك لوقف تداعياتها الخطيرة.
ويبقى تقييم الأمم المتحدة محل جدل وخلاف. فأصحاب النظرة المثالية يرون أنها لم تُحقق أهدافها وأن عالم اليوم تكتنفه أخطار كبيرة، بينما يرى الواقعيُّون أن المنظمة الدولية نجحت في تحقيق أهدافها وفقاً للإمكانات المتاحة لها وما يتيحه لها الميثاق من حرية الحركة. فأمينها العام محكوم في النهاية بقرارات مجلس الأمن وما تتفق عليه الدول الكبرى.
ويتفق الفريقان على أن الأمم المتحدة لا غنى عنها اليوم في ضوء ازدياد المخاطر العالمية المترتبة على وباء كورونا، وارتفاع درجة حرارة الأرض، وتصاعد التيارات الشعبوية الداعية إلى الانكفاء على الداخل. وهي أخطار تتطلب مواجهتها إعادة هيكلة الأمم المتحدة وتفعيل العمل الجماعي العالمي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة