من هنا يصح التساؤل لماذا مثل النقد الجذري للامساواة الذي سجله بيكيتي ثورة فكرية في علم الاقتصاد؟
تحدثنا في مقالنا السابق عن ظاهرة اللامساواة باعتبارها آفة المجتمع العالمي المعاصر.
وعلى رغم أن علماء اجتماعيين من مختلف الجنسيات والتوجهات الايديولوجية سبق لهم طوال العقود الماضية نقد سلبيات اللامساواة إلا أنه يمكن القول إن النقد الجذري للظاهرة جاء بقلم عالم اقتصاد فرنسي شاب هو توماس بيكيتي الذي أصدر بالفرنسية عام 2013 كتاباً بعنوان «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» مثل في الواقع ثورة فكرية في الموضوع لأسباب متعددة.
ولعل هذا هو الذي جعل أحد النقاد الغربيين يعتبر أن بيكيتي هو كارل ماركس القرن الحادي والعشرين!
وذلك لأنه إذا كان كارل ماركس هو الذي اكتشف القوانين الأساسية للتراكم الرأسمالي خصوصاً نظريته عن «فائض القيمة» فإن بيكيتي هو الذي اكتشف القوانين الأساسية الحاكمة للرأسمالية المعاصرة، خصوصاً في معاقلها الرئيسية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية.
ويمكن القول إن سبب تحول كتاب بيكيتي الذي كُتب أصلاً بالفرنسية إلى ظاهرة فكرية عالمية هو أن جامعة هارفارد ترجمت الكتاب إلى الإنكليزية وفي شهور قلائل بيع منه 500 ألف نسخة!
ومن هنا يصح التساؤل لماذا مثل النقد الجذري للامساواة الذي سجله بيكيتي ثورة فكرية في علم الاقتصاد؟
رغم أنني اقتنيت نسخة من الكتاب وقرأته بدقة وتابعت كل ما كُتب عنه من تعليقات لأساتذة الاقتصاد بين مؤيد ومعارض، إلا أنني سأعتمد في عرض نظريته على دراسة فريدة أنجزها إبراهيم نوار الخبير الاقتصادي ورئيس وحدة البحوث الاقتصادية بالمركز العربي للبحوث بالقاهرة.
فقد أنجز نوار - والذي عمل معي سنوات طويلة في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية - كتاباً بالغ الأهمية عنوانه «مانفستو جديد للعدالة الاجتماعية: ثورة توماس بيكيتي على النيوليبرالية» نشره في سلسلة «المكتبة السياسية» التي تنشرها الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة عام 2015.
يقول إبراهيم نوار إن بيكيتي أعاد في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» الاعتبار إلى نظريات توزيع الثروة والدخل، وهي النظريات التي كانت قد ازدهرت في أفكار آدم سميث وديفيد ريكاردو وكارل ماركس، ولكنها انزوت وتراجعت إلى الوراء كثيراً بتأثير ضربات معاول أقطاب المدرسة النقدية الحديثة أو مدرسة شيكاغو في الاقتصاد منذ سبعينات القرن الماضي.
ويمكن القول إن الموضوع الرئيسي الذي عالجه بيكيتي هو تركز رأس المال. والحقيقة الكبرى التي اكتشفها بيكيتي والتي صارت في كتابه جوهر نظريته هي «أن العائد على رأس المال بكل مصادره وأنواعه - يميل تاريخياً إلى الزيادة بنسبة تفوق معدل النمو الاقتصادي في شكل عام». وهذا يؤدي إلى تزايد ثروة أصحاب رؤوس الأموال بنسبة تفوق معدل نمو الدخل القومي والدخل الذي تحصل عليه الفئات الأخرى من كل المصادر المتنوعة غير الثروة وأهمها العمل.
وأشار بيكيتي إلى خطورة النتائج السياسية لظاهرة اللامساواة كما شرحها لأن تركز الثروة قد يؤدي إلى تدمير القيم الديموقراطية التي قامت على أساسها الرأسمالية ومن ثم العودة إلى مجتمع القلة (المعروف في علم السياسة بالأوليغاركية) الذي ينقسم فيه المواطنون إلى طبقتين: طبقة مالكي الأصول الرأسمالية وطبقة الأجراء غير المالكين. ويقول نوار إن بيكيتي حذر من أن ذلك سيؤدي بالمجتمع الرأسمالي إلى العودة من الناحية العملية إلى مجتمع «ريعي» تهدده عوامل الثورة والاضطرابات والحروب.
ويضيف أنه اعتبر أن الحل لمواجهة هذا التراجع يتمثل في الأخذ بسياسات توزيعية تقلل من التفاوت في توزيع الدخل وتساعد على إتاحة الفرص المتساوية لجميع الأفراد في مجالات التعليم والتدريب واكتساب المهارات التكنولوجية والعلاج والتأمين والمعاشات والرعاية الاجتماعية.
ويدعو بيكيتي إلى إقامة «دولة ديموقراطية اجتماعية». والواقع أن هذا الاقتراح يمثل أهم نتيجة نخرج بها من قراءة كتاب «رأس المال في القرن العشرين» الذي درس فيه مؤلفه الرأسمالية في القرون الثلاثة الأخيرة وفي إطار 28 دولة مما يؤكد أنه عمل علمي ضخم أنجزته فرق بحثية متعددة تحت قيادته.
الدعوة إلى إقامة دولة ديموقراطية اجتماعية تلخص في الواقع مطالب الشعوب في كل المجتمعات المعاصرة والتي تتمثل في ضرورة تجديد الديموقراطية حتى تكون معبرة حقاً عن مصالح الجماهير العريضة وليست ستاراً يحمي من يحتكرون السلطة والقوة والمال.
ومن هنا نفهم الدعوة الصاعدة بين علماء السياسة الغربيين وهي أن الديموقراطية النيابية representative Democracy وصلت إلى منتهاها بعدما تبين من الممارسة الديموقراطية في عديد من البلاد أن النواب المنتخبين - والذين من المفروض في النظرية أن يكونوا ممثلين للأمة ككل وليسوا فقط ممثلين لدوائرهم الانتخابية - إنهم في الواقع لا يمثلون إلا مصالحهم الطبقية.
هكذا تحدث عالم السياسة الأسترالي ستورمي في كتابه الصادر عام 2015 عن نهاية السياسات التمثيلية. ولذلك نشأت ما يطلق عليها ديموقراطية المشاركة Participatory والتي تعني تمثيلاً أفضل لكل طوائف الشعب فيما يعد تطويراً أساسياً لنظرية الديموقراطية المباشرة الأثينية.
ومن ناحية أخرى، تطالب الشعوب بحقها في العدالة الاجتماعية التي تضمن التوزيع العادل للثروة القومية على المواطنين وحق كل مواطن في العمل والسكن والعلاج والتأمينات الاجتماعية.
ونحن نعلم من تطور دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State في السنوات الأخيرة أنها مرت بأزمة عميقة نتيجة إلغاء العديد من البرامج الاجتماعية.
إلا أن ثورات الشعوب والتي تصاعدت بصور شتى في السنوات الأخيرة ومن نماذجها ثورات الربيع العربي تؤكد أنه لا مناص من تأسيس ديموقراطية حقيقية من جانب، وتحقيق العدالة الاجتماعية من جانب آخر.
غير أنه ينبغي علينا أن نؤكد أن ما يقترحه بيكيتي عن تأسيس الدولة الديموقراطية الاجتماعية تصلح للتأسيس في المجتمعات الغربية رغم كل صور المقاومة التي ستواجهها من مراكز القوة الرأسمالية التي ستحرص على بقاء الأوضاع كما هي حفاظاً على مصالحها الطبقية بالإضافة إلى السياسيين المحافظين المحترفين الذين يقودون على أن يكونوا خدماً لرأس المال.
إلا أن تطبيقها يواجه في العالم العربي مشكلات جدّ جسيمة.
وذلك أولاً بحكم التاريخ الاجتماعي الفريد للمجتمعات الغربية التي مرت من ثقافة القرون الوسطى إلى عالم الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تحولت الآن لتعيش في عالم ما بعد الحداثة.
في حين أن في المجتمع العربي أثقاله التقليدية وأهمها على الإطلاق أنه ما زال يعيش أسيراً لتقاليد الماضي، ويجد صعوبة شديدة في التعامل مع العصر بمؤسساته الحديثة، وأهمها على الإطلاق الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
ومما لا شك فيه – كما عبرنا أكثر من مرة - أنه ليس للديموقراطية نموذج واحد هو النموذج الغربي الذي يمكن تصديره أو استيراده. والأصح أن هناك مثلاً ديموقراطية عليا أهمها حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم، ومن ثم يقع على عاتقنا إبداع نمط عربي للديموقراطية يتفق مع تاريخنا الاجتماعي من ناحية ومع طموحات الشعوب العربية من ناحية أخرى.
نقلا عن جريدة "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة