دعيت منذ أيام للحديث عن الاقتصاد المصري في ندوة أقامها «مجلس الأطلنطي Atlantic Council»، ومركز «رفيق الحريري»
دعيت منذ أيام للحديث عن الاقتصاد المصري في ندوة أقامها «مجلس الأطلنطي Atlantic Council»، ومركز «رفيق الحريري»
في واشنطن. ولا أريد أن أعرض هنا تفاصيل هذا الحديث، الأمر الذي يجاوز ما هو متاح للنشرفي جريدة يومية. ولذلك سوف أكتفي بعرض رءوس الموضوعات التي تناولتها في الحديث، ثم التركيز علي أمرين للمناقشة بشكل أكثر تفصيلا.
وقدد قسمت حديثي حول أربعة محاور رئيسية، كل منها ينقسم إلي عدة نقاط. وقد رأيت أن أعرض عناوين هذه المحاور، ثم أركز بقية المقال حول موضوعين لأهميتهما علي مستقبل إدارة الاقتصاد المصري.
أما المحاور التي دار حولها الحديث فهي أربعة، وتحت كل منها عدد من القضايا، وذلك علي النحو الآتي:
أولا ـ القيود علي الاقتصاد المصري:
> الزيادة السكانية المستمرة.
> محدودية الموارد الطبيعية.
> بيروقراطية متخمة وقليلة الفعالية.
> انخفاض معدلات الادخار المحلي.
ثانيا ـ سياسات اقتصادية موروثة:
> التصنيع لإحلال الواردات.
> الاهتمام بالكم وإهمال الكيف.
ثالثا ـ تكاليف وأعباء المرحلة الانتقالية:
> تراجع السياحة.
> تدني تدفق الاستثمارات الأجنبية وهروب بعض رءوس الأموال المصرية.
> زيادة أعباء وتكاليف الأمن المحلي.
> الارتباك النفسي لقطاعات واسعة من المواطنين.
رابعا ـ آفاق المستقبل:
> آفاق ومؤشرات لوجود مصادر للطاقة (الغاز والطاقة الشمسية).
> مزيد من التكامل الاقتصادي العربي.
> الأخذ باستراتيجية للتصدير.
> التعلم من الأخطاء ومزيد من النضج الاجتماعي.
وبعد هذا الاستعراض لمحاور الحديث، فإني أقصر بقية المقال علي موضوعين لأهميتهما، وهما، علي التوالي، انخفاض معدل الادخار المحلي من ناحية، ومناقشة سياسة التصنيع لإحلال الواردات بالمقارنة بالتصنيع من أجل التصدير من ناحية أخري.
انخفاض معدلات الادخار المحلي:
يمثل الاستهلاك المحلي في مصر نسبة تجاوز 85% من حجم الناتج الإجمالي، مما يعني أن حجم الادخار المحلي لا يزيد علي 15% من هذا الحجم. وأما أسباب ارتفاع نسبة الاستهلاك وانخفاض معدلات الادخار، فذلك يرجع إلي انخفاض مستوي الدخل الفردي في مصر. ومع الزيادة المستمرة للسكان فإنه يصعب تحقيق زيادة في معدلات الادخار ما لم نأخذ بسياسة سكانية حازمة، مع توفير الظروف المناسبة لجذب الاستثمارات الأجنبية علي ما سنشير إليه. والسؤال: لماذا هذه الأهمية الكبيرة لتحقيق مدخرات محلية كافية؟ والحقيقة أن هذه المدخرات هي التي تمول الاستثمار، وبدون زيادة في الاستثمار فإنه لا تقدم اقتصادي. فجوهر التقدم الاقتصادي والاجتماعي هو تراكم رأس المال الفني والبشري، وبدون الاستثمار في هذه الأمور، فلا تقدم اقتصادي، مهما حسنت النيات.
وإذا حاولنا أن نقارن بالإنجازات المعاصرة لدول كانت فقيرة حتي نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي الآن تحقق إنجازا مبهرا. فانظر إلي ما عرف بالنمور الآسيوية (كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، هونج كونج) ولحق بها ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام.. وجاوز كل هذا، ما حدث مع الصين، حيث حققت الصين ما يشبه المعجزة، عندما بدأت الإصلاح الاقتصادي في السبعينيات من القرن الماضي، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وإن ظل متوسط الدخل الفردي بها متواضعا نظرا للكثافة السكانية. ولا يقل إنجازا ما حققته الهند أخيرا للحاق بزملائها وهي تنبئ بآفاق واسعة. وأهم ما يميز هذه التجارب جميعا هو قدرتها علي تحقيق معدلات عالية للاستثمار تتراوح حول 30% من الناتج الإجمالي، وسواء تم ذلك بموارد محلية أو بمشاركة مع استثمارات أجنبية، فالقاسم المشترك لنجاح هذه الدول هو استمرار الاستثمار وبمعدلات تقارب 30% من الناتج الإجمالي لثلاثة عقود متصلة.
وإذا كانت هذه هي التجارب المعاصرة للنجاح الاقتصادي، فما العمل؟ لابد من تحقيق معدلات استثمار عالية في حدود 30% من الناتج الإجمالي ولفترة لا تقل عن ثلاثة عقود. فكيف نحقق ذلك في مصر؟
هناك أولا التضخم السكاني المنفلقت، ومع استمرار هذه المعدلات العالية للسكان يصعب تحقيق مدخرات محلية كافية. ومع وجود قصور في الادخار المحلي، فإنه لا يمكن تحقيق معدلات مرتفعة من الاستثمار اعتمادا علي هذا الادخار المحدود، ولابد من محاولة زيادة الاستثمارات الأجنبية. وقد لعب الاستثمار الأجنبي دورا كبيرا في كل هذه الدول، ربما باستثناء الصين وإلي حد ما الهند. ولكن لا ننسي أن كلا من هاتين الدولتين لجأت إلي سياسات قاسية لضبط الزيادة السكانية، وبعضها ـ كما في الصين ـ وصل إلي إجراءات تكاد تكون غير إنسانية لضبط الزيادة السكانية.
ومع الاعتراف بأن أي سياسة سكانية لن تؤتي آثارها خلال فترة غير قصيرة، ولذلك فإنه لا مناص من زيادة الاستثمارات الأجنبية لتعويض النقص في الادخار المحلي. ولمصر تاريخ طويل مع رأس المال الأجنبي، وليس كله تاريخا حميدا. فالمشهور هو ديون الخديو إسماعيل التي لم تنفق علي زيادة الطاقة الإنتاجية بقدر ما أنفقت علي أنواع الاستهلاك التفاخري ببناء القصور وأسباب الأبهة، بأكثر مما أنفق علي المشروعات الإنتاجية. وقد تعلمت مصر الدرس، وحافظت بعد تجربتها المريرة مع ديون الخديو إسماعيل وحرصت علي عدم الاستدانة، وحققت دائما فائضا في موازنتها. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية كانت مصر دائنة لانجلترا بما يقرب من أربعمائة مليون جنيه استرليني. ولم تعد مصر إلي الاستعانة بالمعونات الأجنبية إلا في نهاية الخمسينيات وحيث كانت مصر تشتري القمح من الولايات المتحدة بالجنيه المصري وتدفعه لهيئة المعونة الأمريكية، التي كانت تستخدم هذه الحصيلة في تمويل العديد من المشروعات الزراعية والإنشائية. وبعد ذلك جاء تمويل السد العالي بقرض سوفيتي، ثم المساعدات العربية من خلال مؤتمر الخرطوم بعد 1967، كما حصلت علي مساعدات عربية بعد 1973، ومع التصالح مع إسرائيل تعهدت الولايات المتحدة بتقديم معونة أمريكية تستخدم أساسا للتسليح.
وعندما نتحدث عن الاستثمار الأجنبي ـ لتعويض نقص المدخرات المحلية ـ فليس هذا تكرارا للتجارب السابقة، بقدر ما هو إتاحة الفرصة للاستثمار الأجنبي بإقامة مشروعات في مصر لخدمة التصدير استفادة من موقعها الجغرافي وتوافر الأيدي العاملة الرخيصة. ويمكن أن تكون منطقة قناة السويس مؤهلة لمثل ذلك.
ورغم ما ارتبط بالاستثمارات الأجنبية من تجارب صعبة، فإن نجاح العديد من دول جنوب شرق آسيا في جذب استثمارات منتجة يمكن أن يكون مثالا نافعا. المشكلة هي أنه مع انخفاض المدخرات المحلية، فإنه لا مناص من دعوة الاستثمار الأجنبي وتشجيعه مع وضع الضوابط المناسبة واستكمال بناء البنية الأساسية وإيجاد المناخ القانوني المناسب للتوفيق بين المصالح الخاصة للاستثمارات الأجنبية من ناحية، والمصلحة العامة للاقتصاد المصري في زيادة فرص العمل وتوفير الموارد الأجنبية اللازمة من ناحية أخري. وهناك أمثلة وتجارب عديدة لدول نامية استطاعت أن تجذب استثمارات أجنبية كبيرة مع الحفاظ علي المصالح الوطنية.
التصنيع لإحلال الواردات أم من أجل التصدير؟:
لا توجد صناعة للتصدير فقط أو لإحلال الواردات فقط، فهناك دائما احتمالات متعددة، ولكن التوجه العام للصناعة قد يكون أساسا للسوق المحلي، أو علي العكس يتجه بشكل كبير للأسواق الخارجية. ولا يمكن ابداء الرأي، بأن أحد الاتجاهين صالح، وأن الآخر طالح. فالأمر يتوقف علي ظروف كل بلد. وباستثناء تجربة انجلترا في التصنيع، التي سبقت العالم، باعتبارها أول من بدأ الثورة الصناعية، فإننا نجد أمثلة ناجحة لكل من الاتجاهين. ويمكن هنا أن نقارن بين نموذجين للتصنيع في كل من الولايات المتحدة واليابان، وكلاهما بدأ عصر التصنيع في أوقات متقاربة، وهي النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أما الولايات المتحدة، فنظرا إلي أنها أقرب إلي القارة التي تتمتع بكل الموارد الطبيعية، فقد كان من المنطقي أن يكون توجه الصناعة الأمريكية، في أول الأمر، هو إشباع حاجات السوق المحلية. ونظرا لأن الولايات المتحدة كانت تحتاج في بداية الأمر إلي استيراد الآلات من انجلترا الأكثر تقدما من الناحية الصناعية، فإن هذا لم يؤثر عليها، لأنها كانت تتمتع بمصادر كافية من العملة الأجنبية نتيجة لما كانت تصدره من المواد الأولية مثل القطن والدخان، إلي جانب المعادن والمحاصيل الزراعية. ومن هنا، فقد بدأت الصناعة الأمريكية أساسا للسوق المحلية الواسعة، وهي ليست معرضة لأي مشكلة لتمويل وارداتها من الآلات، لأن حجم صادراتها من السلع الأولية والزراعية كانت كافية تماما لدفع فاتورة وارداتها من الآلات. ولم تصبح الولايات المتحدة مصدرة بشكل كبير إلا في القرن العشرين خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. أما اليابان، فهي علي العكس، لا تكاد تتمتع بأي مورد طبيعية. ولذلك قامت صناعتها منذ البداية من أجل التصدير. ومع الاعتماد علي الأسواق الخارجية، فإنها قد وجدت نفسها مضطرة للاحتفاظ بأكبر قدر من الكفاءة حماية لأسواقها في الخارج. فالتصدير يفرض علي الدولة الالتزام بالكفاءة في نوعية الإنتاج مع الثمن المنافس حماية لأسواقها في الخارج. وإذا نظرنا إلي التجارب الناجحة حديثا، فإننا نجد أن معظمها قد اعتمد علي التصنيع من أجل التصدير، يستوي في ذلك الدول ذات الموارد المتعددة مثل الصين أو الهند، والدول الصغيرة محدودة الموارد الطبيعية مثل كوريا الجنوبية أو تايوان.
وإذا عدنا إلي مصر، فقد بدأت التصنيع منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، وكانت مصر حينذاك تحقق فائضا في الصادرات الزراعية مما وفر لها دخلا كبيرا من العملات الأجنبية. وقد أشرنا إلي ما حققته مصر من دائنية علي انجلترا (الأرصدة الاسترلينية). ومنذ الستينيات من القرن الماضي، اتجهت مصر بقوة إلي التصنيع لإحلال الواردات.. وفي الوقت نفسه، بدأ الفائض الزراعي يتآكل، وتحولت الزراعة من ممول للاقتصاد بالعملات الأجنبية إلي عبء علي ميزان المدفوعات. وإذا كانت مصر تصدر منتجات صناعية مثل اليوريا أو الألومنيوم، فإن هذا تصدير في الحقيقة للطاقة من كهرباء أو غاز، بأكثر مما هو تصدير صناعي. ومع نقص الموارد الطبيعية في مصر، فإن قيام الصناعة رهن باستيراد العديد من الموارد الأولية والوسيطة، فضلا عن قطع الغيار والآلات. وهكذا تصبح الصناعة عبئا علي ميزان المدفوعات. فهي مضطرة لتحمل مصاريف الإنتاج بالعملات الأجنبية، في حين أن ما تحققه من عوائد البيع هو بالعملة المحلية، لأنها تعتمد علي السوق المحلية كأسواق، وهكذا تواجه الصناعة العديد من المشاكل بسبب نقص العملة الأجنبية، والاضطرار إلي البحث عن أساليب محلية أقل كفاءة كعلاج لحاجاتها إلي قطع الغيار، وأحيانا الموارد الأولية والوسيطة.
وينتهي الأمر بأن تصبح الصناعة غير قادرة علي المنافسة الدولية. فإحلال الواردات يبدو للوهلة الأولي أنه علاج لنقص العملة الأجنبية، في حين تصبح النتيجة النهائية أنه يزيد من الطلب علي هذه العملة دون أن يوفر منها. ولا يقتصر تأثير نقص العملة اللازمة للإنتاج علي كفاءة المنتج، بل إنه يمكن أن يهدد مصالح العاملين إذا اضطر الإنتاج إلي التوقف أو تخفيض الحجم في دولة تعاني نقص العملات الأجنبية، خاصة بعد أن أصبحت الزراعة عبئا علي ميزان المدفوعات، فإن الحل المنطقي الوحيد هو الانتقال إلي الصناعات التصديرية.
والله أعلم
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة