الكاريكاتير في مصر القديمة.. عندما قاد الذئب قطيع الإوز
عرف هيرودت المصريين بأنهم شعب يحب المرح والدعابة، وهو ما اشتهر عن المصريين عبر العصور، ولعل ما عثر عليه في المقابر يدل على ذلك.
بالسخرية وحدها استطاع الإنسان أن يتحايل على الظلم والاستبداد والقمع الذي تعرض له على مدار التاريخ، سجلت العديد من النقوش والآثار القديمة في فجر الضمير الإنساني، كيف كان الفنان القديم يحاول أن يخرج على الأبعاد والأطر المألوفة ويغير في نسب الأشكال والمرسومات فيضخم في رسم هنا ما ليس بضخم، ويصغر هناك ما ليس كذلك، ليحدث في النهاية تأثيرًا قويًّا في نفوس متلقيه.
يعرف فن الكاريكاتير بأنه فن الإضحاك بالتضخيم، فهو مشتق من الكلمة الإيطالية التي تعني" يبالغ"، وهو فن مضحك في ظاهره ولكنه عميق النقد والانتقاد في جوهره، وفي المفهوم العربي الدارج يعني أن "يجعل من الحبة قبة". وفي أصل فن الكاريكاتير، يقول الباحث محمود مندراوي في بحثه "الكاريكاتير وحكايات توم وجيري منبعهما مصري فرعوني" إن الفراعنة أول من عرفوا فن الكاريكاتير، ونقشوه ورسموه على مقابرهم وعلى أوراق البردي، ساخرًا من الملك تارة ومن الوزير تارة أخرى ومن الحكام ومن الحياة الاجتماعية.
ولقد عرف هيرودت المصريين في سرديته الشهيرة "هيرودوت يتحدث عن مصر" بأنهم شعب يحب المرح والدعابة، وهو ما اشتهر إجمالا عن الشعب المصري عبر العصور، وعرف عنه أنه خفيف الظل، يعشق الفكاهة والسخرية، حتى في أشد اللحظات بؤسًا ومرارة، ولعل العبارات الفكاهية في مقابر مصر القديمة من أبرز الشواهد التي تبرز هذا الحس الفكاهي لدى المصريين.
على سبيل المثال، في مقبرة "أوخ حتب" من آثار الدولة القديمة، نشهد رسمًا لأحد الخدم يشوي أوزة بالغ الرسام في حجمها، وجاء التعليق المصاحب على لسان الخادم يقول "من قديم الأزل وأنا أقوم بالشواء، أتوجد أوزة بهذا الحجم في الدنيا".
وفي أحد مناظر الرحلة التي أرسلتها الملكة المصرية الشهيرة حتشبسوت "1508-1458 ق.م، عبر البحر الأحمر إلى بلاد بونت "الصومال الحالية"، يصور الحمار الذي كانت تمتطيه "آتي" زوجة حاكم بونت والتي نراها مصورة بشكل ساخر في جزء آخر من نفس الحائط، ومن المرجح أن الفنان المصري قد صورها على هذا النحو لأنها كانت مصابة بمرض يعرف باسم "داء الفيل" الذي كان يصيب جزاء من البدن بتضخم ملحوظ، ومن المحتمل كذلك أن يكون الفنان قد بالغ قليلًا لكي يقدم نوعًا من الكاريكاتير، أو تقليدًا فكاهيًّا لها.
ومما وصلنا أيضًا ويحمل طابع السخرية التي تقترب من حافة الفانتازيا بمفهومها الحديث، قطع من الفخار، والأحجار الصلبة ترجع إلى العام 1250 ق.م تصّور ثعلبًا يرعي قطيعًا من الماعز، وذئبًا يقود قطيعًا من الإوز، وهناك رسم آخر لفرس النهر يجلس على قمة شجرة عالية، في حين يحاول النسر الصعود إليها بسلم.
ومن المثير للدهشة أن يكون من بين التيمات الكاريكاتورية التي عرفت في مصر القديمة تيمة "القط والفأر" الشهيرة القائمة على المشاكسات والمناوشات بين الاثنين من خلال مواقف كوميدية ضاحكة أو حوارات تبرز المفارقة في الموضوعات والمعاني التي يتحاوران حولها، ففي نهاية عصر الدولة الحديثة عام 1100 ق.م اشتدت الأزمات في الدولة، فقام المصري القديم بالسخرية من كل الأوضاع المحيطة به، فيصور قطًا ثمينًا يرعى قطيعا من الأوز، وكذلك ثعلبًا يقوم برعي قطيع آخر من الإوز ويعزف على الناي، ورسم آخر يصور فرقة موسيقية أعضائها من الحيوانات والقائم بالغناء حمار، مما يشكل في النهاية لوحة فنية زاخرة المعاني والدلالات ويجسد صورة ساخرة ومبتكرة لفكرة "أنكر الأصوات".
في مصر القديمة، لم يجد البسطاء من الفلاحين والعمال شيئًا يعبرون من خلاله عن معاناتهم والشكوى من صعوبة أوضاعهم إلا الكاريكاتير، ففي التابوت الخاص بالملكة "كاويت"، إحدى زوجات منتوحتب الثاني، نجد تصويرًا يقوم فيه أحد الأشخاص بحلب بقرة، بينما البقرة تبكي ودموعها تتساقط على خدها، ورضيعها مربوط بإحدى قدميها الأمامية ويبدو هزيلا ضعيفا، وكأن هذا الرسم المجسد للألم والحزن والمرارة هو الذي أوحى لشاعر العامية المصري الراحل أحمد فؤاد نجم "الفاجومي" بكتابة قصيدته الشهيرة "بقرة حاحا"، التي يقول فيها: "ناح النواح والنواحة/ على بقرة حاحا النطاحة/ والبقرة حلوب حاحا/ تحلب قنطار حاحا/ لكن مسلوب حاحا/ من أهل الدار حاحا".