يسأل الناس أنفسهم يتلمَّسون إجابات شبيهة لدى الآخرين؛ إذا كان هذا المشهد المدهش الذى يحتويناهو مشهد مُرتبَ ومُعَدّ سلفا، أم عشوائىّ
كلما عرجت فى الآونة الأخيرة على مجلس يتداول أصحابه جديد الأنباء، ويتناقشون فى أمور السياسة والمجتمع، تطرق النقاش إلى سؤال يطوف على الألسنة كلها، يثير الجدل ويفتح الشهية لإطلاق الخيال، سؤال غالبا ما يلاحق العجز عن استيعاب ما يجرى من أمور، وعن فهم خفاياها ودوافعها.
يسأل الناس أنفسهم ويجيبون ويتلمَّسون إجابات شبيهة لدى الآخرين؛ إذا كان هذا المشهد المدهش الذى يحتوينا جميعا هو مشهد مُرتبَ ومُعَدّ سلفا، أم عشوائىّ، إذا كان بفعل فاعل أو لقيط. إن كان وراءه عقلٌ مُدَبِّر وهدفٌ مُحَدَّد، أو هو نِتاج غيابٍ كاملٍ للعقل والفِكر. إن كان هناك شخصٌ أو أشخاصٌ محنكون يديرون الأمور ويخططون لها، أم أن هناك فراغا، والأمور تسير وحدها كيفما اتفق.
يسأل الناس إن كان ما نراه ونلمسه على صعيد السياسة والاقتصاد والأصعدة الأخرى على اختلافها، مؤامرة مدروسة شاركت فيها السُلطة أو لم تشارك، أم هو نِتاج لإدارة تغيب عنها الرؤية المستقبلية بل والآنية الواضحة، بما يجعله مُقَدِّمة لأيام أكثر قتامة تغرق فيها البلاد، ولا تُستثنى منها مؤسسة الحكم وأروقتها.
إزاء عديد المشكلات التى تتفجر كل يوم، وإزاء التصريحات الرسميّة التى تتضارب فيما بينها، والأفعال التى تبدو أحيانا غير حقيقية لفرط جنوحها، وخروجها عن مألوف أبجديات الممارسة السياسية، يقف بعضنا حائرا وأحيانا ذاهلا، وينخرط بعضٌ آخر فى محاولات التفسير وبناء استنتاجات شِبه منطقية صالحة للاستهلاك.
***
يُسهم أداء النظام الذى يحمل كثيرا مِن الغرائب والمتناقضات فى طرح ثنائية العجز والعمد؛ العجز عن تدبُّر الأمور الجادة مقابل تَعَمُّد إهمالها. يصبح على الناس اختيار أحدهما مبررا لشواهد إخفاق متتالية. يتساءل كثيرون حول تصاعُد أفعال الشرطة الخارجة على القانون، ووحشيتها المُفرطة التى لم تعُد تقف عند حدّ؛ أرسالة مقصودة مِن السُلطة إلى الجماهير العريضة التى عادت إلى التملمُل مِن جديد فى غياب بادرة لتحسُّن الأوضاع، أم تغول وانفلات غير محسوب يشى بعجز عن السيطرة. أهى تمهيد لحدث جلل آت فى الطريق، أم مَحض حُمق سياسيّ لا يرى المخاطر ولا يعترف بالماضي؟
تؤكد وزارة الداخلية أن مواطنا توفى قضاء وقدَرا فى قسم الشرطة دون أن يمسسه أحد، وفى الوقت ذاته تُعلن مصلحة الطبّ الشرعىّ التابعة لوزارة العدل أنه تعرض إلى تعذيب حتى الموت، ثم تصرح الداخلية ــ الواثقة من غياب التعذيب ــ بإحالة عدد من أفرادها إلى النيابة متهمين بقتل المواطن. ينطلق الناس يفسرون التضارُب الذى يتجاهله المسئولون، يراه البعض فشلا فى التنسيق بين مؤسستين عريقتين على غير المعتاد، والبعض الآخر يراه عراكا داخليّا بين أركان النظام تظهر مؤشراته على السطح بين الحين والحين، وفريق ثالث يراه بالونات اختبار تقليدية ومُتعَمَّدة لقياس ردود أفعال الجماهير.
يدفع سلوك بعض الصحف الشهيرة، الموالية للسُلطة، باستفهامات وتفسيرات شبيهة. مرات تقود حملات النقد والتعريض وكأنها صُحُف مُعارَضة، ومرات تصمت تجاه أزمات عميقة صمت القبور، وكأنها تتلقى أمرا بالبثّ المكثف، أو بإغماض الأعين والدخول فى سبات عميق. أمدفوعة هى لتحريك الناس بمقدار معلوم ومأمون، أم أن هناك فشل فى فرض الرقابة التامة اللصيقة على أطنان المكتوب والمنشور؟
***
التنمية التى لم تجد لها محلا سوى أخلاق وضمائر الناس هل هو اقتراح يُقصَد مِن ورائه إلقاء اللوم على المواطنين وسلوكهم، ورفع عبء السقوط المدوى عن كاهل النظام، أم هو مجرد طرح عشوائىّ ساذج لا يستهدف شيئا، ولا يشى إلا بضحالة الأفكار والرؤى التى يتبادلها مَن هم فى سدنة الحكم ؟
منطوق خطاب السلطة ذاته صار حافزا مستديما على التساؤل؛ إن كان هذا الأداء العجيب مُتعمَّد ليوحى إلى عامة الناس بالدهاء والحنكة، أم هو مظهر آخر من مظاهر الخيبة: رسوبٌ فى الصياغة، وفشلٌ فى الالتزام بأبسط قواعد اللغة والخطابة. سمعنا عبارات خاوية مُفرغة مِن كل معنى، وألعاب لغوية تبدو فى ظاهرها براقة، سمعنا كثيرا عن أهل الشر دون أن نعرف أسماءهم أو صفاتهم الأخرى، وسمعنا عن تحدى التحدى دون أن نفهم المراد منه، وعرفنا أن الدستور كُتِبَ بنوايا حسنة، وتساءلنا إن كان هناك غرض مُحَدَّد مِن هذا التوصيف، أو هو محض زلة لسان لا يستتبعها تغيير ولا تنقيح لمواد وبنود، مرة جديدة: عمد أم عجز؟.
***
خلاصة الأمر بتنا نتساءل كل يوم إن كان المشهد المرتبك مصنوعا أم طبيعيا، مقصودا أم غير مقصود، ولا مفرّ من استعارة القول هنا: لو كان مقصودا فتلك مُصيبة، ولو لم يكن مقصودا فمصيبة أعظم، الحال الأولى تعنى أن هناك من يعقل ويفكر، أما الحال الثانية فتعنى أننا نسير فى طريق الهلاك.
طرح الأسئلة التى تبقى إجاباتها مفتوحة أمر صحىّ فى معظم الأحيان، لكن أسئلتنا هذه لا تشى بصحة بل باعتلال جسيم. الإحساس بالغموض يربك المشاعر بل ويربك الحياة بأسرها، والوجود فى منطقة غائمة لا وضوح فيها ــ منطقة عبثية حيث الأشياء كلها قابلة لأن تكون حقيقة وأن تكون وهما ــ يخلق حالا من التوتر، ومن الإحساس باللاجدوى. أسئلتنا تنبع من أجواء تعتيم وتعمية واستخفاف بوجودنا، ولا تعكس سوى انعدام ثقتنا فى كل شىء حتى فى قدرتنا على استخدام أدمغتنا، فلا معطيات ثابتة ولا نتائج يمكن استخلاصها، والأمر يستوجب أن نخلق بأيدينا ما نثق فيه.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة