كتب الكثيرون عن الحاج صبرى أو الأستاذ محمد صبرى السيد الذى رافق نجيب محفوظ فى سنواته الأخيرة.
كتب الكثيرون عن الحاج صبرى أو الأستاذ محمد صبرى السيد الذى رافق نجيب محفوظ (مع حفظ الألقاب، فهو فى مرتبة أعلى منها جميعا) فى سنواته الأخيرة، بل كان محفوظ يملى عليه أحلامه أو أحلام فترة النقاهة كما أطلق عليها أديب نوبل. وبالتالى وجد الحاج صبرى نفسه فى مكانة يُحسد عليها، فمن النادر أن يملى كاتب بحجم نجيب محفوظ أعماله وأن يستمر فى ذلك لسنوات، بعد محاولة اغتياله فى العام 1994 على يد شاب ينتمى للجماعة الإسلامية.
رغم ضعف بصره وسمعه وعدم قدرته على تحريك يده بشكل طبيعى، لم يتوقف محفوظ عن الإبداع، قائلا:«إن إدراك الحدود لا يعنى الانسحاب من الساحة، وإنما التعامل معها بما يضمن الاستمرار»، وهذا ما فعله.. يحلم، فيترك لخياله العنان، ثم يخضع الحلم لتبديل وتعديل، ويختمر فى رأسه حتى يتحول من حلم خام إلى عمل أدبى له قوام. بعدها يأتى دور الحاج صبرى، حين يتلو عليه محفوظ ثلاثة أحلام، دفعة واحدة، فى جلسة واحدة، مرة فى الأسبوع، بعد أن يكون قد رتبها فى ذهنه وجاهزا لإملائها.
***
تذكرت ما حكاه لى الحاج صبرى بمنزله فى منطقة الإباجية، جنوبى القاهرة، قبل وفاة نجيب محفوظ بأيام، أو «نجيب بيه»، كما اعتاد أن يناديه، بمناسبة صدور «الأحلام الأخيرة» لمحفوظ عن دار الشروق، أخيرا. كان لدى شغف، كما العديد من الصحفيين، فى أن أعرف تفاصيل حول الكاتب فى محرابه، وكان الحاج صبرى هو سبيلنا إلى «قدس الأقداس». الرجل الذى كان قد تجاوز السبعين من عمره قبل نحو عشر سنوات، تحديدا وقت رحيل نجيب محفوظ فى أغسطس 2006، عمل سكرتيرا بالقسم الأدبى فى الأهرام وعمل فى نادى القصة الذى كان ضمن مؤسسيه محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعى، فى مطلع الخمسينيات.
وبعد حصول محفوظ على نوبل، استعان بالحاج صبرى لكى يقرأ له الصحف فى مكتبه بالأهرام أيام السبت والاثنين والخميس، ما بين التاسعة والحادية عشرة صباحا: صفحة التليفزيون والتحقيقات ونصف كلمة لأحمد رجب، ومقال أحمد بهجت ويوسف إدريس والمقالات الأخرى، وتفاصيل الأسعار والشهر العقارى وبريد الأهرام، ويختم بالرياضة والاجتماعيات والوفيات أو «صفحة الواجب» كما كان يسميها نجيب بيه.
كذلك كان على الحاج صبرى أن يرسل «أصدق التهانى» فى المناسبات السارة، وأن يواسى من فقد عزيزا، على طريقة محفوظ، بالقول: «أحسن الله عزاءكم». بعدها يحتسى محفوظ قهوته وسيجارة الساعة الثانية عشرة ظهرا، بولع العاشق. يظل يداعب علبة السجائر حتى يحين وقتها بالتمام والكمال، فقد كان شديد الالتزام حتى فى مواعيد الكتابة. يجلس أحيانا لساعات، ممسكا بالقلم، دون أن يكتب حرفا، لكنه لا يبرح مكانه. وله فى ذلك منطقه الخاص، منطق الموظف الذى لا يترك مكتبه قبل انقضاء مواعيد العمل الرسمية. كان موظفا مهنته الكتابة، الإلهام يأتيه فى أوقات محددة، وليس من المعقول أو من المسموح أن يترك مكانه شاغرا ويداعب الإلهام خياله فلا يجد أحدا. هذا هو المنطق نفسه الذى جعله يرسل بأحلام النقاهة إلى الأستاذة سناء البيسى لنشرها فى مجلة «نصف الدنيا» فى توقيت محدد كالساعة، على يد الحاج صبرى، فى مظروف حكومى كبير مذيل بتحياته وإمضائه.
***
ظل محفوظ يكتب أحلامه بخط يده حتى الحلم رقم 140، رغم صعوبة ذلك من جراء الإصابة، حتى أُرهقت يده تماما، فأملى الحلم رقم 141 على السيدة سناء البيسى، ومن بعدها تولى الحاج صبرى المهمة بأمانة وامتنان. كان الأخير سعيدا عندما يروى كيف دأب نجيب محفوظ على أن يفتح له الباب بنفسه يوميا، مع انتقال مكان لقائهما إلى البيت بحى العجوزة، فى تمام التاسعة، بابتسامته الجميلة وكلمة «أهلا» تعلو شفتيه بسرعة، ليجلسا معا على الأريكة ويحتسى الشاى بدون سكر. وبدا سعيدا أيضا وهو يحكى كيف كان يسرد أحلام محفوظ على جيرانه فى الإباجية، فيحاولون تفسيرها وتأويلها، وهو ما أراده محفوظ أن يفسرها كل شخص على هواه. أرادها خارج «التصنيف والفهرسة والجهبذة والنقد»، كما تقول الأستاذة سناء البيسى، فى مقدمة «الأحلام الأخيرة»، مؤكدة أنه كتبها تحت لافتة «النقاهة» لتظل على المدى أحلاما تتوارى وتندس وتزوغ تحت تلك اللافتة، الحجة، أو العذر، ففترة النقاهة تعنى فى مظهرها أن صاحبها لم يتماثل للشفاء الكامل بعد، أى أن عدسة الأمور بالنسبة إليه ليست فى وضعية التطابق الأمثل كى نقضى بالإدانة أو البراءة.
***
يحلم بسعد زغلول، زعيمه المفضل، وبحبيبته الأولى، وبالموسيقى ومجالس الطرب، وبأمه وأقاربه الذين توفاهم الله، حتى كانت آخر الأحلام التى نشرت فى مجلة «نصف الدنيا» قبل سنوات والتى شعر معها الحاج صبرى باقتراب النهاية، خاصة ذلك الحلم الذى رأى فيه محفوظ نفسه بصحبة الأصدقاء والأقارب فى بهو عظيم يتلألأ نورا، يضحكون ويرقصون حتى كلت أقدامهم وبحت حناجرهم و«الآن جميعهم يرقدون فى مقابرهم، مخلفين وراءهم صمتا ونذيرا بالنسيان. سبحان من له الدوام». وفى حلم آخر، تأبطت ذراعه فتاة جميلة، ووقفا أمام بياع الكتب، فرأى كتبه تشغل مساحة كبيرة وكلما تناول واحدا منها يجدها قد تحولت إلى ورق أبيض، لم يبق منه شىء، «استرقت النظر إلى فتاتى فرأيتها تنظر إلى برثاء».
الفناء ربما يكون الكابوس الأعظم لأى كاتب. سجل محفوظ فى «أحلامه الأخيرة» منظر النسوة المتشحات بالسواد، وصف الظلمة والصمت اللذين لا يخترقهما سوى نباح كلبته الجميلة. وقال: «رأيتنى أدرس القانون إكراما لأبى وأذوب فى الأنغام مرضاة لروحى، وعند ذروة الاختيار تناهى بى العذاب، ولكن الروح انتصرت فى الختام». الرحمة لمحفوظ، ووافر الصحة للحاج صبرى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة