حين تدخل محلا للحلويات فى سوريا، يهرع البائع لاستقبالك مرحبا بك كأنك أحد أفراد عائلته
حين تدخل محلا للحلويات فى سوريا، يهرع البائع لاستقبالك مرحبا بك كأنك أحد أفراد عائلته. تسأل عن نوع من الحلويات يبدو لك جديدا من خلف الزجاج، فيسحب البائع قطعة منها ويقدمها لك كى تتذوقها. قد تأخذها أو قد تعتذر وسيكلفك اعتذارك يمين الطلاق من البائع أنك لن تخرج من المحل قبل أن تتذوق وتعطيه رأيك بالـ«كول واشكور»، أى «كل واشكر» وهى بقلاوة ذهبية شكلها معين محشوة بحبوب الفستق الكاملة، وبعدها سيقطع لك من صينية أخرى كبيرة قطعة «بلورية بيضا متل وجهك»، وهى عجينة الكنافة الناعمة البيضاء المحشوة بالفستق والسكر والمعطرة بماء الزهر مقطعة على شكل مربعات. يعرف السورى أن أى مشوار إلى السوق سينتج عنه نصف شبع لمعدته دون أن يدفع قرشا واحدا، من جراء تذوقه لقمات متعددة لأكلات مختلفة أثناء التجوال، فهذا سر قديم محفور فى عقلية التاجر السورى وفى قلب المشترى: احتف بالزبون، ضَيفْه واستقبله وكأنه دخل إلى دارك لا إلى محلك، شَجعْه على الشراء دون أن تطلب منه ذلك، فهو إن لم يشتر منك هذه المرة فسيتذكرك فى زيارته القادمة للسوق، وقد يقف عند محلك فى المستقبل ويشترى حاجاته مما تعرضه. أما المشترى فيقرر بالفطرة ألا يشترى شيئا من بائع بخيل، فبخل البائع يدل فى نظر المشترى، على أنه لم يستعمل فى بضاعته أفضل المكونات. البائع الذى لا يُضَيف حبة حلويات فى محله بخيل فى كل شىء، هكذا يفكر الزبون. «بضاعته ما فيها بركة، لو فيها بركة كان أعطاك منها».
أفكر فى كل ذلك عندما أزور حى السوريين فى إحدى ضواحى القاهرة، هو أصبح يسمى «حى السوريين» مجازا، هكذا يشير إليه السوريون من سكان المدينة، نسبة إلى تجمع عدد من السوريين ممن لجأوا إلى القاهرة فيه، ومن ثم تحويل شارع منه إلى سوق يشبه بمواده وروائحه والحركة فيه أى سوق فى مدينة سورية. ينقل السوريون عاداتهم معهم إلى أماكن سكنهم الجديدة، يعيدون صياغة حياتهم كى تتناسب مع ظروفهم، قد يخرجون تماما خارج اختصاصاتهم وفقا لمتطلبات واقعهم الجديد وحياتهم ما بعد سوريا، فترى المهندس يصنع الحلويات والمحامى يصنع الجبنة.
***
يتوقف بى الزمن حين أصل إلى الحى السورى، أسمع اللهجات السورية المختلفة، فأحاول إعادة نسج قصصهم من خلال لكناتهم، أتساءل وأسألهم عن حياتهم الجديدة وعن ظروفهم هنا، فى المنفى الذى نحاول جميعنا تسميته، مؤقتا أو بشكل دائم، وطننا الجديد، «الحمد لله مستورة» يجيبك السورى غالبا، وهو يكيل الحليب كى يصنع منه جبنة أو لبنا أو لبنة أو قشطة، «وكيفه أبو سليم؟ صار لى زمان ما شفته»، أسأل عن الخباز الذى يدير المحل المجاور، والذى كان فى حياة سابقة صاحب محل حلويات كبير فى مدينته فى سوريا، كما قال لى ذات مرة فى زيارة سابقة، «والله يمكن وصل عالدنمارك، الله أعلم».
أشعر بقبضة كبيرة تعصر قلبى مع كل قصة سورى ركب البحر إلى مصير مجهول أو مكان آمن، أتمنى لو أستطيع أن أفرش حصيرة بدوية ملونة كبيرة تحت أقدام السوريين فى المدينة التى أعيش فيها، وأن أقنعهم أن يبقوا هنا، أن نعيد تركيب مجتمعنا الصغير معا بانتظار أن نعود، نشرب القهوة بالهيل ونحتفل معا بزواج شاب وصبية أحبا بعضهما حين باعها هو أوقية بن فى يوم صيفى حار فى السوق. «ليش راح؟ كان شغله منيح هون»، أسأل وأنا أعلم الجواب. «يا خانم شو الفايدة؟ بلادنا ما بدها يانا، والواحد بِدو يضمن مستقبل أولاده».
أتذكر أن زوجة أبو سليم كانت تنتظر مولودها الثانى حين اشتريت الخبز من عنده قبل أشهر. أتخيلهم مع الطفل الأول على ظهر الأب والثانى فى بطن الأم، على متن القارب المطاطى المكتظ، أتخيلهم فى الماء يناطحون الموج، ثم على الطريق يضربون بأقدامهم المتعبة الطرق فى بلاد لا يتكلمون لغتها ولا كانت على بالهم أصلا منذ خمس سنوات، حين افتتحوا محلهم فى حمص أو الرقة أو حلب وسط فرحة الأهل، يومها جاء أهل الحى كله ليباركوا لهم بالافتتاح وينظروا إلى الأشكال الصغيرة التى صفت على الصوانى. «ما شاء الله تسلم إيديكم»، يقول أحدهم فيمد صاحب المحل صينية مملوءة: «تفضل، لا والله ما بصير، لازم تاخد حتى يزيد الخير»، يومها رفرفت الابتسامات وتسابقت لقم الحلوى بالفستق إلى الأفواه وهفت رائحة العسل فى فضاء المحل الدافئ.
أسأل عما إذا كان أحدهم قد حل محل أبو سليم فى المخبز. «محمد الصالحانى استلم المحل» يجيبنى بائع الجبنة. «أهله كان عندهم محل كتير فاخر فى المرجة فى الشام، وهو عم يحاول يتذكر المصنعية، لأنه كان يوقف مع أبوه بالمحل لما كان صغير، بس بعدين درس هندسة كهرباء وما رجع عالمحل».
***
قاسية هى هذه البلاد التى تلفظنا بسبب قلة استيعاب سياساتها وقوانينها وإمكانياتها لوجع اللجوء، مع أنها تحتوينا بدفء أهلها وابتساماتهم المحبة والجاهزة دوما حين نقول لهم من أين نحن. نفضل عليها بلادا باردة لا تذكرنا بماضينا لكنها تبشرنا بمستقبل معقول لأولادنا، إن تعلموا لغتها واحترموا نظم حياتها. «شوفى خانم، اللى راح ما رح يرجع، واللى دخلوا أولاده على المدارس هناك ولقى شغل حسب مؤهلاته رح يبقى بالبلد الجديد. بس أقول لك الدغرى؟ ما حدا منا كان بدو يطلع من سوريا، وما فى شى برا بيسوى لقمة القشطة يللى كان يعملها جدى على إيده فى حماه، ويطعمينا ياها يوم الجمعة لما كنا نروح نزوره، كان يحلف أنه صار له يومين عم يطالع القشطة من الحليب تحضيرا واحتفالا بزيارتنا».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة