كانت ثورة 25 يناير 2011 أكبر عملية مراجعة مجتمعية تمت في مصر، توافقت على أهمية التغيير، واتفقت على أن المستقبل لابد من بلوغه
كانت ثورة 25 يناير 2011 أكبر عملية مراجعة مجتمعية تمت في مصر، توافقت على أهمية التغيير، واتفقت على أن المستقبل لابد من بلوغه بوسائل وقيم أكثر حداثة، تقترب بالمواطن المصري من مجتمع الحقوق المدنية الكامل، وبالنظام السياسي من مقومات الحكم الديمقراطي الرشيد.
لكن بينما ينظر الشباب الذى فجر هذه الثورة للمستقبل ولأدواته، تسلم القرار والتفاوض حول مصير البلاد عدة قوى تنتمى للماضي في تكوينها، سواء كانت الأحزاب القديمة أو جماعة الإخوان، أو حتى المجلس العسكري الذى تولى السلطة في البلاد آنذاك، فيما بقيت قوة الشباب مُهمشة ومُهدرة، أو مدفوعة للاستغراق في الاحتجاج المستمر، دون تطوير هذا الاحتجاج في رؤية سياسية قادرة على النمو والانتقال بالبلاد إلى المستقبل.
ومن بين هذه القوى المنتمية ثقافيًا لقيم الماضي تسلم تنظيم الإخوان راية هذه الثورة، وبات يعتقد أن وجوده في السلطة هو قمة التغيير وقمة الإصلاح، وأنه لا بأس إن استمرت كل سياسات الماضي بعد إطلاق "لحاها"، بمعنى إكسابها طابعًا دينيًّا محافظًا.
مراجعة شبيهة حدثت في الثلاثين من يونيو عام 2013، لكن بدا في داخلها حنين لدولة الماضي رغم أخطائها، أكبر من تطلع لمستقبل رسمت بعض ملامحه يناير وتعطل بلوغه لأسباب كثيرة في العامين التاليين من الإطاحة بحسني مبارك.
تتحرك في المجتمع عدة قوى تعتقد بفاعليتها، قوة تقدم نفسها باعتبارها معسكر ديمقراطي مدني يرفع شعار لا عودة لما قبل يناير أو يونيو، لا ينظر لتجربته بقدر من النقد الذي يسمح بفهم أسباب إخفاقه المزدوج في مواجهة جماعة الإخوان وأنصار الدولة والجيش في الشارع وعبر الصناديق الانتخابية.
المراجعة هنا غائبة يطلبها الثوريون الديمقراطيون فقط من خصومهم، ولا يمارسونها على أنفسهم، ليقدموا للناس نقدًا ذاتيًا لتجربتهم خلال السنوات الخمس الماضية، وأسباب تهميشهم وخروجهم من الصراع المحسوم بين الطرفين الرئيسيين الجيش وبقايا دولة مبارك من جهة وجماعة الإخوان وجمهورها الديني من جهة أخرى، دون أن يكون أمامهم خيار سوى الانحياز لهذا الطرف أو ذاك.
قريب من هذا المعسكر معسكر الدولة. مؤسساتها وبيروقراطيوها والمؤمنون بها، ويعتقدون كما كانوا دائمًا أن الحل من قبل 25 يناير كان إحداث تغيير من داخل النظام واستبدال الوجوه في إطار ذات "النظام"، وهذا المعسكر أيضًا لم يجر أي مراجعات ليقنع المصريين -كما يحاول أن يروج- أن العيب في الدولة قبل 25 يناير كان عيب أشخاص، وأن بنية الدولة وعلاقاتها بالمجتمع وانحيازاها وثقافة أدائها لم تكن هي الحاضنة التي سمحت بممارسات هؤلاء الأشخاص، بدليل أن كثيرًا من هذه الممارسات السلبية يتكرر أمنيًّا وسياسيًّا وتشريعيًّا رغم غياب الأشخاص واستبدالهم بوجوه جديدة.
بقايا نظام مبارك أيضًا يعتقدون أن من حقهم العودة دون مراجعات، لمجرد أن توازنات القوى أضعفت معارضيهم، وتجربة الناس مع حكم جماعة الإخوان خلقت حنينًا لحكم حسنى مبارك الأسبق بمنطق "جربنا الأسوأ، فلماذا لا نعود إلى السيئ"، وهو أيضًا التفاف على المراجعة، وكأن المشكلة كانت في أناس ارتكبوا جرائم ويحاسبون عليها في محاكمات جارية، وباقي من لم يطولهم الاتهام لم يدعموا ذلك سياسيًّا أو سلطويًا أو حتى بتفصيل القوانين التي تُمكن من حدوث ذلك، ولم يروجوا لهذا النموذج بفساده وتشوهه وإقصائه للمصريين سياسيًّا واقتصاديًّا.
يلتف الإخوان أيضًا على المراجعة، وهذا تكتيك تنظيمي يحاول ضمان استمرار مناخ المحنة والمظلومية لصرف الأنظار عن أي نقد ذاتي لتجربة الجماعة في الأعوام الأخيرة، دون إدراك أن المراجعة الجدية هي الباب المقبول للعودة للمستقبل.
لكن اللافت أن المطالب العامة للمراجعة تُوجه فقط للإخوان وكأن الآخرين لمجرد أنهم في موقع القوة لا يجب عليهم إجراء أية مراجعات، رغم عدم بلوغ الجميع أي من أهداف المستقبل التي قامت من أجلها ثورة يناير حتى الآن.
باستثناء تجربة تيار في الجماعة الإسلامية يقوده ناجح إبراهيم وكرم زهدي، لم يجر فصيل مصري مراجعة حقيقية تجعله يضع يده على مواطن الخلل بوضوح في أفكاره وممارساته السابقة، ويبني على ذلك موقفًا جديدًا يجري اختباره أكثر من مرة ويصمد.
غير ذلك تبدأ التيارات الأساسية في المجتمع في بتبرئة نفسها أولًا من الخطأ، وتُلقي باللوم كل اللوم على الآخرين، مع أوصاف وتصنيفات عدائية شديدة الحدة مثل "المتآمرين، الخونة، الدولة العميقة، الانقلابيين، أعداء الديمقراطية". لكن أحدًا لا يتحدث عن نصيبه من هذه الأخطاء، وحين يكون مضطرًا للحديث عن أخطائه، يجيب مثل كبار نجوم السينما النرجسيين في مصر: "أهم عيوبي أنى طيب، متسامح، صريح، حسن النية"، فيما ترى قطاعات من الإخوان أن الجماعة أخطأت بالفعل، لكنهم يعتبرون أخطاءها أنها "لم تقمع بالقدر الكافي وتحبس معارضيها، وتركت الإعلام يتحداها، لم تحبس منتقديها، وأنها وثقت في الجيش وأجهزة الدولة".
أما أكثر شكل من أشكال المراجعات الذي تمارسه التيارات السياسية، هو أن تستسهل بتوزيع الخطايا على الجميع بمنطق "كلنا أخطأنا"، كما جاء في بيان اعتذار منسوب لجماعة الإخوان قبل عامين.
هذه الأيام وفى الذكرى الخامسة لثورة يناير، تغيب المراجعات تمامًا، ما يجعل فهم العثرات التي واجهت أحلام شباب هذه الثورة صعبًا تمامًا؛ لأن كل طرف يتحدث عن أخطاء غيره، ولا يقترب بأي شكل من النقد الذاتي لما اقترف، ومن لا يملك القدرة والشجاعة على رؤية أخطائه والاعتراف بها، كيف يمكن الوثوق في قدرته على رؤية المستقبل.
مطلوب تشجيع التيارات السياسية المصرية على ممارسة النقد الذاتي والتقييم النزيه لممارساتها وتجاربها؛ لأن المراجعات باب بلوغ المستقبل، وبدونها سيكون المستقبل شبيهًا بالماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة