الديمقراطية عليلة في الغرب نفسه، فكيف كانت ستُشفي أفغانستان؟
نسب عالية من الناخبين في الغرب لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع. بعضهم لم ينتخب في حياته ولا لمرة واحدة. وكاتب هذه السطور فعلها لمرة واحدة قبل ربع قرن، وشعر بالمرارة مما فعل. ولم يكررها من بعد ذلك أبدا. إذ كان الأمر كله عبارة عن خديعة مُرّة.
وعد المرشح لمنصب رئيس الوزراء بأن ترعى حكومته الصحة والتعليم والخدمات، وعندما تربع على السلطة، فعل هو وحزبه شيئا واحدا: شنَّ غزوا على العراق، وساهم جنوده في تدمير بلد، وتحطيم شعب بأسره، بناء على مبالغات وأكاذيب، وكانت النتيجة مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء، وملايين المهجرين ونظام فساد وفوضى ترك الباب مفتوحا للإرهاب.
هذا الأمر يتكرر بأشكال شتى في معظم دول الغرب. وتلعب لوبيات التأثير وشركات الإعلان دورا رئيسيا في صياغة الانطباعات وتوجهات الرأي العام.
والتغيير نفسه يبدو وكأنه ممارسة من ممارسات الملل. والسبب هو أن المصالح الكبرى تظل تملي على الحزب الحاكم والذي يأتي بعده، الاعتبارات والسياسات نفسها، فيصبح "التغيير" نوعا من الركض وراء بعض الإثارة الشكلية أو الترقيعات الطفيفة فحسب.
ليس من الضروري استعارة ما قاله ونستون تشرشل: "الديمقراطية أسوأ نظام عرفته البشرية، ولكنها لم تعرف نظاما أفضل"، لأن هذا الانطباع نفسه تقدم في وقت كانت الديمقراطية فيه ما تزال أفضل حالا مما آلت إليه.
ما قيل في الديمقراطية، طبيعتها، ومتطلباتها، كثير للغاية. إلا أن جوهر الأمر هو أنها معترك ثقافة، وثمرة بنيان اجتماعي واقتصادي، ومعارف، وتقاليد، وقوانين. ولهذا السبب فإنها غير قابلة للتصدير.
إذا كان "تصدير الثورة" عملا من أعمال العدوان والتدخل غير المشروع في شؤون الآخرين، فإن تصدير الديمقراطية، يكرر الشيء نفسه.
بعض دوافع "التصدير" تعود إلى ثقافة الاستعلاء العنصري. فالغربيون يعتقدون أنهم أرقى مثال للبشرية، وأن كل ما يعتبرونه صالحا لهم، يجب أن يكون صالحا لغيرهم أيضا. حتى إن هذه النظرة، كانت فكرة مركزية للمشروع الاستعماري الذي قال، في وثائق "عصبة الأمم"، إن غايته هي "ترقية الشعوب المتخلفة وضمان تحضرها".
الوقائع لم تكن كذلك أبدا. الكثير من دول العالم، لم تكن على مستوى التقدم الصناعي والعلمي الذي كانت عليه دول الغرب، هذا صحيح، إلا أنها لم تكن بلا قيم إنسانية خاصة بها. كما أنها لم تكن بلا تقاليد اجتماعية وفرت لها الاستقرار وحالت دون أن تقع ضحية لحروب أهلية طاحنة، أو فوضى تستمر لعدة قرون.
السفير البريطاني السابق إلى ليبيا بيتر ميليت، قال في مقال بعنوان "أسوأ أشكال الحكم": "إن بناء المؤسسات الديمقراطية يستغرق وقتا، فالدول مثل المملكة المتحدة تقوم بذلك منذ مئات السنين. فقد تعرضت إنجلترا لحرب أهلية طاحنة منذ 350 عاما وبلغت ذروتها في البرلمان. فرنسا أيضا خاضت ثورة دموية منذ أكثر من 200 سنة. وهذه ليست بالضرورة أمثلة يحتذى بها بالنسبة للبلدان الأخرى، ولكنها توضح حقيقة أن الديمقراطية تستغرق وقتا طويلا. فهي عملية وليست حدثا".
الديمقراطية، بكل تأكيد، ليست صناديق اقتراع، كتلك التي ظل يفوز فيها الفساد في العراق وأفغانستان، عندما جاءت القوات الغربية لتفرض على هذين البلدين تصوراتها عن "التقدم".
كما أنها ليست "حكم الأغلبية" كما يُشاع عنها، كتعبير مطلق عن سوء الفهم. لأنها، بما هو أكثر أهمية من ذلك، "احترام حقوق الأقلية". أن تكسب السلطة بالأغلبية، فإنك لا تحصل على ترخيص للإطاحة بحقوق الآخرين، أو بعدم الإصغاء لمطالبهم وتحفظاتهم.
وبالنظر إلى طبيعة الثقافات والتقاليد المحلية، فإن الديمقراطية حتى بوصفها معتركا ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا طويل الأمد، فقد لا يجدر ببعض المجتمعات أن تخوضها من قبل أن تُجري التكييفات الثقافية والحقوقية المناسبة.
"تصدير الديمقراطية"، كعمل من أعمال الاستعلاء العنصري، أثار ردود فعل لا تقل عدوانية من جهات التطرف الأخرى. إذ إن ما يتم التغافل عنه من جانب هذه الجهات هو أن الديمقراطية "نظام قيم".
الانتخاب ليس هو الأساس في تلك القيم. العدالة والمساواة ودولة القانون واحترام الحقوق الفردية وقبول التعددية هي الأساس. أما الانتخاب فهو مجرد آلية من آليات الإدارة الكثيرة التي يمكن لكل مجتمع أن يبتدع منها ما يلائمه.
ما يجعل الديمقراطية عليلة في الغرب، هو أن الآلية باتت لا تعني شيئا. والمصالح الكبرى هي كل شيء، بصرف النظر عمن يحكم.
تصدير الديمقراطية إلى أفغانستان، ما كان ليثمر إلا كارثة. كانت طبيبا يداوي الناس وهو عليل.
أسوأ من ذلك، هو أن الطبيب جاء بعلاجاته وهو مسلح بالصواريخ والطائرات وأعمال الدمار الشامل. فهزم نفسه ولم تنتصر الديمقراطية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة