الجزائري عثمان عريوات.. من عرش الكوميديا إلى غياهب التهميش
الرئيس الجزائري أعاد الاعتبار لملك الكوميديا عثمان عريوات بعد أن كرمه بوسام الاستحقاق الوطني بعد قرابة ربع قرن من التهميش.
يسميه الجزائريون والنقاد "إمبراطور الكوميديا السينمائية"، و"ملك الكوميديا"، دون منازع وحتى "جنرال السينما".. إنه الفنان عثمان عريوات محبوب الجماهير المتعطشة للأعمال السينمائية خاصة الكوميدية في الجزائر.
ربما يكون هذا الفنان القدير "من القلائل الذين يلتف حولهم ويتفق عليهم الجزائريون باختلاف مشاربهم ومناطقهم ولهجاتهم"، بل أضاف لقاموس اللهجة المحلية مصطلحات من أعماله السينمائية يتداولها الجزائريون عند السخرية من أي شيء أو انتقاده، مستمدة من بيئته وأصوله العربية البدوية من شرق الجزائر.
هو أيضا واحد من الفنانين النادرين الذين بقيت أعمالهم بـ"الشهرة ذاتها عند عموم الجزائريين وهم يعيدون متابعتها وكأنها تبث لأول مرة رغم أن آخرها مر عليه قرابة 3 عقود من الزمن".
يقول بعض النقاد، إن الفنان عثمان عريوات "ظاهرة نادرة لم تتكرر" بالسينما الجزائرية تشبه في كثير من تفاصيلها الزعيم عادل إمام لكن بنسخة جزائرية خاصة، لقدرته الفائقة على أداء الأدوار التاريخية باللغة العربية الفصحى، وكذا الكوميدية بتلك اللهجة واللكنة البلدية القادمة من عمق منطقة الأوراس (شرق)، أمتع بها شعباً بأكمله كما لم يفعل أي فنان من قبله.
كل ذلك، "لم يشفع له طوال عقدين من الزمن" خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة، بعد أن "غُيب عن الأنظار" فيما يشبه "اعتزالاً قصرياً أو عقاباً على جرأة آخر عمل سينمائي له حاكى فيه الوضع السياسي للبلاد بأسلوب كوميدي هادف مليء بالرسائل المشفرة والمفتوحة" التي أدخلته في غياهب التهميش والنسيان، وغذت سوق الشائعات حول وفاته من حين لآخر.
إلى أن جاء "العهد الجديد" كما يسميه البعض في الجزائر، ليعاد له الاعتبار من الرئاسة الجزائرية بأن منحت له "وسام الاستحقاق برتبة عشير" وهو التكريم الأول من نوعه في مساره الفني والذي أعاده إلى الواجهة بعد قرابة ربع قرن من الاختفاء و"تجميد عمل سينمائي آخر له عن الانتخابات الرئاسية" بعنوان "سنوات الإشهار".
وهو الفيلم الذي أعطت وزارة الثقافة الموافقة عليه بعد تجميده لأزيد من عقدين بعد إقرار تعديلات عليه من قبل لجنة المراقبة.
من هو عثمان عريوات؟
يعد الفنان عثمان عريوات صاحب الـ72 عاماً من الوجوه الفنية المحسوبة على الجيل الثاني للسينما الجزائرية، ولد في 24 سبتمبر/أيلول 1948 بمنطقة "أمدوكال" التابعة لمحافظة باتنة الواقعة شرقي البلاد.
لم يمكث في مسقط رأسه باتنة إلى 10 سنوات، قبل أن يتنقل إلى العاصمة برفقة عائلته "دون أن تتغير لكنته أو تتأثر بلهجة سكان العاصمة"، ليدخل المجال السينمائي من أوسع أبوابه في ثمانينيات القرن الماضي.
ومن أشهر أعماله السينمائية، أدائه دور "الشيخ بوعمامة" عام 1984، وهو أحد أبرز قادة المقاومات الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي (1881– 1882)، أخرجه بن عمر بختي للتلفزيون الجزائري الحكومي، ونال الميدالية الذهبية عام 1985 في الأسبوع الثقافي بالاتحاد السوفياتي.
ومن الأعمال التاريخية إلى الكوميدية، صنع الفنان عثمان عريوات مجداً له وللسينما الجزائرية، جسد خلالها أدوار شخصية ريفية في معظم أعماله، كان من أشهرها "الطاكسي المخفي" (السيارة المخفية) عام 1989، واشتركت في بطولته "سيدة الكوميديا الجزائرية" كما تلقب الراحلة "وردية".
وفيلم "امرأتان" عام 1992 برفقة الفنانة بهية راشدي للمخرج أعمر تريباش، و"عائلة كي (مثل) الناس" عام 1990 مع الفنانة الراحلة فتيحة باربار.
فيلم "كرنفال في دشرة"
أعمال بقيت راسخة في السينما الجزائرية وفي الذاكرة الجماعية للجزائريين، لكن فيلم "كرنفال في دشرة" كان "الاستثناء" وفق النقاد بين كل أعماله وربما "جميع الأعمال الكوميدية الجزائرية"، إلى الحد الذي يصفه البعض بـ"الطفرة النادرة في الكوميديا الجزائرية"، وعلامة مسجلة باسم الفنان عثمان عريوات.
"كرنفال في دشرة" أو مهرجان في قرية صغيرة هو عنوان لفيلم سينمائي جزائري كوميدي هادف في الظاهر، وفي حقيقته عنوان لواقع سياسي واجتماعي في الجزائر منذ استقلالها خصوصاً فترة التسعينيات.
يقال إنه فيلم "صالح لكل زمان ومكان"، جَلد الواقعين السياسي والاجتماعي، وعرى طبيعة الممارسة السياسية في الجزائر في الانتخابات.
"الدشرة" أو القرية الصغيرة لم تكن في الحقيقة إلا بلدا اسمه الجزائر ونموذجا يعمم على بقية "الدشرات" والمحافظات، وعلى حكومة البلاد.
وهو الفيلم الذي صُور وأذيع في تسعينيات القرن الماضي بالتزامن مع الأزمة الأمنية والسياسية والاقتصادية التي ضربت الجزائر، وحقق حينها نجاحاً باهراً بعد عرضه على التلفزيون الجزائري.
قصة الفيلم تدور عن شخصية "مخلوف البومباردي" وهو عثمان عريوات، كان "شحاتا مع مجموعة من الأشخاص"، يأخذون المال من الناس ويدعون لهم بالخير، ثم تَعَرّف البومباردي على شخص جاء من خارج القرية اسمه "الحاج إبراهيم" وهو الممثل الكوميدي "صالح أوقروت"، وتزامن مجيئه مع قرب الانتخابات المحلية للمجالس المحلية والولائية.
أقنع الحاج إبراهيم مخلوف البومباردي بالترشح للانتخابات، ومن هنا بدء الفيلم في عكس ذلك الواقع السياسي والاجتماعي.
ترشح مخلوف البومباردي للانتخابات، ولأنه شخصية أمية، اقترح عليه الحاج ابراهيم أن يكسب أصوات الناس في حملته الانتخابية بالولائم وتقديم النقود لهم، وبالفعل كانت فكرة الحاج ابراهيم ناجعة، وأوصلت مخلوف البومباردي إلى رئاسة الدشرة وفاز على منافسيه.
تشكلت إدارة الدشرة من شخصيات انتهازية وأخرى معارضة للبومباردي، وبدأت معها اجتماعات تنمية الدشرة، وبأسلوب ساخر وكوميدي وهادف جدا، سلط المخرج وكاتب السيناريو ومعه عثمان عريوات الضوء على طريقة مناقشة الأمور المصيرية في بلد مثل الجزائر منذ نحو 3 عقود.
"الدشرة" التي يرأسها البومباردي هي قرية نائية معزولة تفتقر لأدنى ضروريات الحياة، لكن المشرفين على تسييرها فشلوا في إخراجها من واقعها التعيس وحولوا موازنتها إلى ما يشبه "لعبة قمار" وراحوا يفكرون في إنشاء "دار للثقافة"، ثم مهرجان شبيه بمهرجان قرطاج التونسي، ويبذرون أموال الدولة على أمور لا تعني الدشرة لا من قريب ولا من بعيد.
ثم جاء المشروع الأكبر الذي عول مخلوف البومباردي ليخرج الدشرة من عزلتها، وهو مصنع، باقتراح من الحاج إبراهيم وبعض الانتهازيين الذين كانوا من حوله، وعند التدشين تفاجأ البومباردي بأن ذلك المصنع لم يكن إلا قاعة ألعاب كبيرة، وعرف هنا أنهم كانوا يخدعونه ويستغلون منصبه للسرقة والفساد، وأصبح البومباردي مهددا بالمتابعة من الجهات العليا، ورغم ذلك كان له الوقت ليفكر في الترشح للرئاسيات.
جلد للواقعين السياسي والاجتماعي في الجزائر
الفيلم عالج ظاهرة تولي المناصب في الجزائر سواء من ناحية المستوى التعليمي أو طريقة تفكير المسؤولين المحليين، وأسرار الحملات الانتخابية في الجزائر وجهل الناس بحقوقهم وواجباتهم، وكيف يتمكن هؤلاء من الترشح والفوز بالانتخابات بالخطابات الشعبوية وشراء الذمم.
نجاح الفيلم لازال إلى يومنا هذا، وكان أقوى وآخر الأفلام السينمائية التي نقدت الوضع السياسي في الجزائر بطريقة ساخرة وكوميدية واستطاع أن يوصل رسائله القوية إلى جميع الجهات، رسمية وشعبية.