ربما كان فيما يلي تعريفا بمأزق السياسي الأمريكي خلال المرحلة الراهنة، ولكنه ربما أيضا مأزق السياسي في كل مكان.
ربما كان فيما يلي تعريفاً بمأزق السياسي الأمريكي خلال المرحلة الراهنة، ولكنه ربما أيضاً مأزق السياسي في كل مكان لا فارق في ذلك بين دولة عظمى وأخرى صغيرة، أو بين دول اختلفت ثقافتها السياسية في الشرق والغرب. موضوع المأزق هو التغيير، ومنذ عقود قال الفيلسوف السياسي "ليو ستراوس" إن جوهر السياسة هو "التغيير"؛ وإن على السياسي أن يغير عندما يكون التغيير إلى الأفضل، وأن يكون عليه أن "يحافظ" إذا ما كان ذلك سوف يقود إلى ما هو أسوأ. التغيير هو موضوع العلوم السياسية ومحاولتها فك شفرات التعامل مع ما هو تقدم إلى الأمام، وما هو محافظة على الأمر الواقع، لأن تجاوزه يعني الذهاب إلى الجحيم. بالطبع فإن هناك درجات كثيرة واقعة ما بين ما هو تقدم وما هو محافظة، وعليها يقف من يعرفون بالمعتدلين، أو أهل الوسط، وفي كتاب "أفلاطون" القديم عن "القوانين" الذي اعتبرها جوهر السياسة والحضارة أيضاً فإن إقامة القانون أو تغييره هو من علامات الحكمة والحصافة التي تستلزم نوعية بعينها من السياسيين الذين يجمعون بين شجاعة التغيير، وتواضع المحافظة. الأمر في واقعه العملي فيه ما يشبه الجمع بين النار والثلج، أو في السياسة البحث عن "المستبد العادل" الذي يقيم العدل ويعدل الميزان؛ وعند أفلاطون فإن السياسي الذي يضع القوانين لا بد من أن يتعدى الأربعين سناً لكي يسن القوانين باعتدال ولضمان مرونته فإن الاستماع إلى الموسيقى هو من شروط الضرورة للقيام بالمهمة.
وقت كتابة هذا المقال قبل يومين كانت الجولة الثانية للمناظرات الانتخابية بين مرشحي الحزب الديمقراطي العشرين قد انتهت. وفي مشهد بدا وكأنه يلخص "المأزق السياسي" الأمريكي جرى فيه تبادل الرأي بين جبهتين اختلفتا حول قضية الرعاية الصحية التي باتت القضية الأولى على جدول أعمال الحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة.
ولكن هذا المأزق يمكن مشاهدته مباشرة في السياسة الأمريكية لأنها الأكثر شفافية، والأطول نفساً، فالموسم السياسي فيها لا يستمر أسابيع كما هو الحال في الدول الأوروبية، أو فيما هو أقل من ذلك في الدول الأقل ديمقراطية؛ حيث يكون الاختيار متواضعاً بين خيارات محدودة أو الموضوعات "سابقة التجهيز" التي لا تحتاج كثيراً من الفحص. في الولايات المتحدة فإن السياسة تبدو كما لو كانت حالة مستمرة ومستدامة تكاد تبدأ فور انتخاب الرئيس والكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ، وأحياناً قبل أن يدخل الرئيس إلى مقره في البيت الأبيض، فإن الإشاعات تبدأ في التواتر حول من يكون في الأفق مرشحاً جديداً بعد أربعة أعوام.
ولكن ما هو توقعات وشائعات يدخل تدريجياً في مرحلة اليقين بعد ما يسمى بالتجديد النصفي للكونجرس، أي بعد عامين من الانتخابات السابقة، بعدها تنفك العقد وتبدأ الاستعدادات للانتخابات التمهيدية الخاصة بالحزبين الجمهوري والديمقراطي التي باتت تمثل النظام السياسي الأمريكي الذي يقوم في الأصل على تعدد الأحزاب ولكن الواقع والحقيقة استقر لحزبين فقط، وما بعدهما تفاصيل لا يعتد بها أحد ولا يهتم.
وقت كتابة هذا المقال قبل يومين كانت الجولة الثانية للمناظرات الانتخابية بين مرشحي الحزب الديمقراطي العشرين قد انتهت. وفي مشهد بدا وكأنه يلخص "المأزق السياسي" الأمريكي جرى فيه تبادل الرأي بين جبهتين اختلفتا حول قضية الرعاية الصحية التي باتت القضية الأولى على جدول أعمال الحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة. الخلاف دار بين معسكرين، واحد منهما يريد رعاية صحية كاملة وشاملة للمواطنين وتشمل حتى نظارات العين وسماعات الأذن والأسنان لكبار السن وللمواطنين باعتبار الصحة واحدة من حقوق الإنسان الأساسية التي يجب أن يحصل عليها المواطن من الدولة. أما المعسكر الآخر فلا يراها كذلك، كما أنه لا يراها من واجبات الدولة، وأكثر من ذلك يرى أن التكلفة سوف تكون باهظة، ولا بد ساعتها من فرض ضرائب جديدة على المواطنين تخل بالأوضاع الاقتصادية للطبقة الوسطى في البلاد، والتي سوف يقع عليها العبء الأكبر منها، خاصة أن المعسكر الأول لا يريد فقط العلاج المجاني وإنما أيضاً التعليم المجاني من الحضانة حتى الجامعة. ولمن لا يعرف ويريد المعرفة كاملة فإن التعليم في الولايات المتحدة مجاني حتى المرحلة الجامعية، وفيها يمكن للطالب الحصول على قروض لدفع مصروفات الدراسة الباهظة، والتي كثيراً ما تلقي عليه أعباء للديون تستغرق الجزء الأكبر من حياته. الصحة قصة أخرى، فهي تقع على عاتق المواطن الذي عليه أن يتقدم إلى شركات التأمين التي يدفع لها قسطاً شهرياً، وبعدها تقوم شركة التأمين بتولي علاجه. وفي كثير من المؤسسات والشركات فإن العاملين والموظفين فيها يقومون بدفع قدر من التأمين الصحي تضيف إليه جهة العمل قدراً آخر. هذا النظام كان فيه عيوب منها أن هناك ملايين ليس لديهم تأمين صحي، وملايين أخرى لديهم بعض من هذا التأمين ولكنه لا يشمل الأمراض التي سبقت التأمين، وفي أحوال أكثر استثنت وثيقة التأمين أمراضاً مستعصية من العلاج مثل السرطان وألزهايمر. وقد حاول باراك أوباما في إدارته حل هذه المعضلة بأن تتدخل الدولة لكي تدفع التأمين لغير القادرين، ولكي تسد فجوة الأمراض المستعصية؛ وفي كل الأحوال ظل موضوع الرعاية الصحية قائماً لكي تفتحه الانتخابات مرة أخرى.
لفت النظر في المناظرة الأخيرة ما جرى بين المرشح "ستيف بولوك" وهو أحد حكام الولايات و"جون ديليني" عضو مجلس النواب من ناحية، وكلاً من عضو مجلس الشيوخ "بيرني ساندرز" وعضوة مجلس الشيوخ "إليزابيث وارين" من ناحية أخري؛ حيث أكد الأولان أنه علي المرشح أن يكون واقعياً ولا يقدم للناخبين قصصاً خيالية فتكون الرعاية الصحية للجميع، ومن ثم لا بد أن يكون هناك من فرض ضرائب خرافية لا يتحملها أحد؛ فما كان من الأخيرة إلا أنها انفجرت قائلة إنها لا تفهم لماذا يتحمل بعض الأمريكيين عناء الترشح لرئاسة الجمهورية إذا لم تكن لديهم القدرة على إحداث تغيير جذري في الأوضاع القائمة. هذه المواجهة لخصت جوهر مأزق السياسي الأمريكي وربما كل سياسي آخر، فعليه أولا أن يجيب عن السؤال هل يغير أو لا يغير؛ وثانياً إذا قرر التغيير فإلى أي مدى: جذرياً أو معتدلاً أو محدوداً. وفي هذا الإطار جرت المناظرة بين الديمقراطيين، ولكنها كانت مناظرة مع الجمهوريين أيضاً، فالنقاش لم يكن يجرى في غرف مغلقة وإنما هو مفتوح للمشاهدة من الجميع، وأكثر ذلك استغلالها أيضاً في شن هجوم مبكر على الحزب الديمقراطي تمهيداً للهجوم على مرشحه للرئاسة بعد عام من الآن.
الهجوم الجمهوري على الحزب الديمقراطي ركز على نقطة توجه الحزب إلى اليسار، وإلى الاشتراكية التي تعني تدخلاً من الدولة في حياة الإنسان الذي عليه أن يتحكم في مسارها بما فيها الكيفية التي يتم بها علاجه من أمراضه. لم يكن أحد معنياً بالانقسام الجاري لدي الديمقراطيين حول المدى الذي يمكن الذهاب إليه في تغيير قانون الرعاية الصحية، وإنما استخدام المأزق السياسي الديمقراطي لصالحه في الانتخابات طالما أن ٣٥٪ من الناخبين يعرفون أنفسهم كمحافظين، في مقابل ٢٦٪ يعرفون أنفسهم كليبراليين، وفي النسق السياسي الأمريكي فإن المحافظين يقعون على اليمين والليبراليون على اليسار أما الاشتراكيون الذين يريدون العلاج والتعليم المجاني فهم خارج النسق تماماً ويعتبرون من المتطرفين. هل بهذه الطريقة، وهذا التوزيع للتوجهات، فإن من هم مثل "بيرني سوندورز" و"إليزابيث وارين" يضيفون لأنفسهم مأزقاً سياسياً آخر بالخروج خارج السياق السياسي كلية؛ أم أنه من الوارد أن تأتي لحظة يكون النظام السياسي كله على شفا أزمة كبيرة تحتاج من يستطيع اختراق حجبها والسعي نحو تغيير كبير وهائل؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة