في ظل وجود أكثر من 50 ناقلة نفط شهريا، فهذا يعني أن المنطقة بحاجة لعشرات السفن، بل حتى المئات لحماية هذا العدد.
منذ بدايات الأزمة الأمريكية الإيرانية كان هناك توقع أن الإدارة الأمريكية -وحفاظا على هيبة الدولة العظمى- ستوجه رسائل رادعة للجانب الإيراني، وتنقل المواجهة إلى مرحلة جديدة مع النظام بهدف تهميش خياراته، وتحديد مجالات تحركه.
إلا أن تردد الإدارة الأمريكية وارتباكها وحدوث حالة من التجاذب السياسي والاستراتيجي داخل مراكز التأثير الداخلية سمح للقوات الإيرانية في الخليج بتهديد أمنه، والاستمرار في تحدي الجانب الأمريكي ومؤخرا الجانب البريطاني، في إشارة مهمة إلى أن إيران لن ترتدع، بل بالعكس ستستمر في نهجها السياسي والاستراتيجي دون أن تعود إلى رشدها السياسي مستثمرة في هذا الموقف الأمريكي، وتغريدات ومواقف الرئيس الأمريكي المرتبكة والمتناقضة، والتي تحمل رسائل مزدوجة ورسائل غير واضحة، برغم كل التقارير الأمنية والاستراتيجية التي دعته للقيام بعمل عسكري. ومع ذلك لا تزال تتعامل مع تبعات الموقف الإيراني.
الرسالة هنا أن الرئيس الأمريكي ترامب ليس مقيدا، أو منساقا لتهديدات الكونجرس، خاصة أن أجهزة المخابرات المركزية بكافة فروعها تدعو الرئيس للتعامل مع الخطر الإيراني، والقضية لا تحمل انقساما حقيقيا حول تيارين؛ أحدهما مؤيد، والآخر معارض للتعامل مع الحالة الإيرانية.
لقد منحت هذه الخطوات الأمريكية المتعددة، والتي تبدو في سياقها العام أنها لا تريد الحسم، أو التعامل بجدية مع التهديدات الإيرانية، وإيقاف الجانب الإيراني عند حدوده، خاصة أن الأسلوب الإيراني متكرر في استمرار تهديد أمن الملاحة في الخليج العربي، ومضيق هرمز، وهو ما يشير إلى حالة من التصميم الإيراني على نقل رسائل للجميع وعدم التخوف من سياسات رد الفعل بعد أن جربتها مع الإدارة الأمريكية التي ما تزال تتحدث عن أمة عظيمة ودولة كبرى قاصدة إيران، وأنها تريد التفاوض معها على أسس واقعية من أجل تجنب قتل 150 شخصا في إشارة الرئيس ترامب نفسه عندما أعلن إلغاءه للضربة الأمريكية التي كان مرتبا لها للتحسب لقتل مدنيين، فماذا ستفعل الولايات المتحدة وبريطانيا في المدى القصير لمواجهة السلوك الإيراني العدواني؟
ليس أمام الإدارة الأمريكية وحليفتها البريطانية سوى البحث عن مسار حقيقي في التعامل مع إيران، والانتقال من المشهد العبثي الراهن والمفتوح على مصراعيه إلى تبني مواقف حقيقية جادة ليس فيها ارتباك أو تناقض، خاصة أن الإدارة الأمريكية لم تعرف بعد حدود الخطر المتوقع من الجانب الإيراني، خاصة أن إيران لا تزال تطالب بموقف أوروبي أكثر التزاما للإبقاء على الاتفاق النووي التي بدأت إيران في التنصل تباعا من بنوده، لا سيما وأنها ترى الجانب الأمريكي يتجه للوكالة الدولية لاتخاذ إجراءات في حق إيران مع إدراك الإدارة الأمريكية أن الجانب الإيراني معرض أصلا لمزيد من العقوبات من مجلس الأمن الدولي.
وبالتالي ستستمر حالة من التجاذب السياسي، والاستراتيجي بين الأطراف الأمريكية البريطانية الفرنسية من جانب برغم وجود تباين أصلا داخل هذا التحالف ، وما يقابله من الجانب الروسي والصيني، مما يتيح للجانب الإيراني مزيدا من المراوغات السياسية والاستراتيجية، والاستمرار في خطة إطالة الأزمة، وعدم القبول بالتهدئة والكف عن الخطوات الاستفزازية لعرقلة الملاحة في الخليج العربي. وهذا ما يتطلب بالفعل موقفا أمريكيا وأوروبيا جدا حال استمرار التهديدات الإيرانية المفتوحة على مصراعيها والتي تنذر بالخطر.
من هنا يجب على الولايات المتحدة -إذا كانت جادة- تبني سياسات، وإجراءات استباقية في المقام الأول وليست فقط رد الفعل على السلوك الإيراني إيجابا أو سلبا، إذ إن بقاء هذا الأمر سمح بتمدد الخطر الإيراني بصورة كبيرة، بل سمح للجانب الإيراني بأن يتحدث من منصة الند، وأنه قادر على أن يملي شروطه بالفعل في مواجهة الجانب الأمريكي، مستثمرا بالفعل تردد الإدارة الأمريكية وتناقض مواقفها، وهو ما يزيد من تبعات تعقد الأزمة الراهنة.
فبريطانيا أرسلت سفينة حربية ثالثة إلى الخليج هي فرقاطة من الفئة 45 كرسالة ردع حقيقية لإيران، ومن المنتظر أن تزيد من وجودها البحري مع التخطيط لإعادة الانتشار في المنطقة، وبالتالي ستدفع هذه الخطوة الإدارة الأمريكية للتحرك أيضا، خاصة أن التعرض لأية سفن بريطانية لن يكون الرد عليه من منطلق بريطاني، وبقوة بحرية بريطانية بل قوة مباشرة من قوات حلف الناتو، لذلك يبدو أن ضغط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الدول الحليفة للولايات المتحدة لإنشاء أسطول مشترك من السفن الحربية يستهدف حماية ناقلات النفط التجارية من الهجمات التي تشنها إيران في الخليج، كما يتسق مع مشروع أُطلق عليه اسم "الراصد" ويعتبر أقل بقليل من مواجهة عسكرية مع إيران بحيث يجمع الحلفاء الأوروبيين والخليجيين لحماية أحد أهم طرق التجارة الحيوية في العالم.
لكن في ظل وجود أكثر من 50 ناقلة نفط شهريا، فهذا يعني أن المنطقة بحاجة لعشرات السفن، بل حتى المئات لحماية هذا العدد، وبرغم ذلك تتفاوت مواقف الدول الأوروبية حيث ترفض الدول التي ضغط عليها ترامب بشكل مستمر -لزيادة إنفاقها على الناتو- الانخراط بهذه المبادرة، بينما توجد بعض الدول المستعدة لمناقشة الاقتراح والخوض فيه. ومن غير الواضح نوعية المساهمات المطلوبة في المبادرة الأمريكية الجديدة، وفي ظل الحشد الحالي للقوات الأمريكية والبريطانية في منطقة الخليج العربي، التي تضم الآن مجموعة حربية من ست حاملات طائرات مزودة بما لا يقل عن خمسين طائرة مقاتلة، وسفينة أمريكية برمائية تنقل المارينز ومعداتهم، وبطارية صواريخ باتريوت، وأربعة أسلحة نووية قاذفات B-52.
ومن ثم، فإن الجانب الإيراني سيواجه تحديات حقيقية حال تصعيد الأزمة، وفي حال تطوير التحركات المدروسة من قبل دول الترويكا. هنا نصبح أمام مرحلة جديدة ستلزم الجانب الأمريكي -ولاعتبارات متعددة- أن يغير من موقفه تجاه إيران، وينتقل إلى مرحلة أخرى من المواجهة بعيدا عن التقيد بموعد محدد أو التعويل عن قرب إجراء الانتخابات الأمريكية، إذ إن هذا الموقف الأمريكي المتردد قد يؤدي لخسارة الرئيس الأمريكي ترامب ملفا من الملفات المهمة لإدارته بعد أن تباهى طويلا بأنه خرج من الاتفاق النووي بناء على ما وعد به المواطن الأمريكي.
إذن ليس أمام الإدارة الأمريكية إلا أن تتحرك من الآن، وتعد العدة لمواجهة التطورات السلبية من قبل الجانب الإيراني، ولعل ما جرى خلال الأيام الأخيرة في منطقة الخليج يشير –وبعمق- إلى أن إيران لن تتراجع ولن تهدأ، ومن ثم فإن أمام الرئيس الأمريكي ترامب إما التعجيل بتبني سياسة جديدة في إطار إعادة الانتشار في المنطقة، وتمركز القوات البحرية الأمريكية والتنسيق مع الجانب البريطاني الفرنسي، وإما الاتجاه قدما لسلسلة إجراءات استراتيجية استباقية لحماية أمن الخليج والممرات الدولية، ومما يؤكد وجود القوة العظمى بصورة كبيرة، ويستحضر المصداقية الدولية في المشهد الدولي لدولة مارقة لا تريد استقرار المنطقة.
إن خطط تأمين الممرات والمضايق من عبث الجانب الإيراني بات أولوية قصوى، ويجب على الولايات المتحدة سرعة القيام بها، خاصة أن أمن الملاحة الدولية معرض بأكمله للخطر، لذلك يعد التذرع أمريكيا بأن القوات الموجودة في المنطقة كافية، وغيرها، كلام يحتاج إلى مراجعات حقيقية، خاصة أن قرار الرئيس الأمريكي ترامب بزيادة عدد القوات في الخليج اصطدم بالكونجرس، وتوجهات الحزبين الديمقراطي والجمهوري برغم أن الرئيس ترامب -ووفقا لصلاحياته الفيدرالية- يمكن أن يتخذ إجراءات وتدابير حقيقية بدون العودة للكونجرس مثلما فعلها الرئيس جورج بوش في مطلع التسعينيات.
الرسالة هنا أن الرئيس الأمريكي ترامب ليس مقيدا أو منساقا لتهديدات الكونجرس، خاصة أن أجهزة المخابرات المركزية بكافة فروعها تدعو الرئيس للتعامل مع الخطر الإيراني، والقضية لا تحمل انقساما حقيقيا حول تيارين؛ أحدهما مؤيد، والآخر معارض للتعامل مع الحالة الإيرانية.
وتبقى الرسالة الأخيرة مطروحة في ضرورة أن تقوم الإدارة الأمريكية بدورها في حماية أمن العالم، باعتبارها الدولة التي توجد على رأس النظام الدولي، وفي حال تقاعسها فإن على سائر دول مجلس الأمن الدولي التدخل، والبحث عن حل لمواجهة التهديدات الإيرانية المستمرة، والتي قد تعرض أمن العالم بأكمله لأزمة حقيقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة