من النادر أن نسمع في صفوف حوالي 50 دولة انضمت إلى المجلس الأوروبي ومحكمة ستراسبورج، خلافات ومواجهات من هذا النوع وبهذه الكثافة.
أعلنت القيادات السياسية في حزب العدالة والتنمية رفضها قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في ستراسبورج بالدعوة للإفراج عن المعارض السياسي الكردي ورئيس حزب الشعوب الديمقراطية صلاح الدين دميرتاش المسجون منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بعد اتهامه "بأنشطة إرهابية " .
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال: إن القرار غير ملزم لبلاده دون انتظار ما سيقوله القضاء التركي المعنيّ، من الناحية القانونية والتقنية، بالتعامل مع طلب المحكمة وما تدعو إليه، لكن أصواتا في المعارضة التركية مثل رئيسة حزب "ايي بارتي" المعارض ميرال أكشنار تقول: إن ملف قضية دميرتاش هو ملف يشبه ملف القس الأمريكي برانسون الذي أطلق سراحه مؤخرا، وأن مساومة تدور وراء الأبواب
فيما يقول آخرون إن القرار سيتحول إلى حالة قانونية جديدة يؤخذ بها في التعامل مع الكثير من الملفات المشابهة في مسألة الفترات الطويلة للمحاكمات في تركيا.
البعض في تركيا يدافع حتى النهاية عن حقوق الإعلامي السعودي القتيل جمال خاشقجي، ووصل إلى حد المطالبة بتحريك مؤسسات المجتمع الدولي، لكنه في موضوع المواطن التركي دميرتاش يذهب بمنحى آخر ويتهم محكمة ستراسبورج بتسييس الملف والقضية، والكيل بمكيالين، ويدعو لعدم تنفيذ القرار
آخر نقاط المواجهة كانت بين وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو الذي انتقد تصريحات وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني التي عبرت عن الأمل في إطلاق سراح دميرتاش قريبا، فاتهمها بتجاوز حدودها. مع أن كاتي بيري، مقررة الاتحاد الأوروبي لشؤون تركيا، ترى أن حكم المحكمة الأوروبية واضح وهو يعني أنه يتعين الإفراج عن دميرتاش فورا "اعتقاله ذو طبيعة سياسية وليس جنائية ".
القصة هذه المرة وباختصار هي أن محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وبطلب من دميرتاش، أصدرت قرارا ملزما بضرورة الإفراج الفوري عنه؛ "لأن الأسباب التي قدمت لإبقائه خلف القضبان لا تستند إلى ركائز قانونية كافية"، وأن على السلطات التركية إطلاق سراح دميرتاش، الذي كان نائباً بالبرلمان التركي، واعتُقل بناءً على مبدأ «الاشتباه المعقول»، مطالِبة السلطات التركية بوضع نهاية لحبسه الاحتياطي وبدفع 10 آلاف يورو، تعويضاً لدميرتاش عن الأضرار التي لحقت به، وكذلك 15 ألف يورو مصاريف التقاضي.
أنقرة بمقدورها الاعتراض على القرار خلال 3 أشهر، وعندها ستدرس المحكمة العليا الأوروبية الملف وتعطي قرارها النهائي. لكن الكرة دائما هي في ملعب ستراسبورج لتقرر مسار ملف الدعوى، وفي ملعب أنقرة لتلتزم أم لا. مع التذكير بما يقوله حزب دميرتاش من أنه دخل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في شهر يونيو المنصرم، وحل في المركز الثالث، بحصيلة أصوات بلغت نسبتها 8.4 في المائة من عدد الناخبين الذي تجاوز 57 مليون ناخب.
من النادر أن نسمع في صفوف حوالي 50 دولة انضمت إلى المجلس الأوروبي ومحكمة ستراسبورج خلافات ومواجهات من هذا النوع وبهذه الكثافة.. أنقرة والمحكمة هما في صدام دائم بسبب مئات القرارات وملايين الدولارات التي أمرت المحكمة بتغريمها للسلطات التركية نتيجة الكثير من الدعاوى والشكاوى وطلبات التعويض المادي. عودة خاطفة للأرشيف مثلا تقول إن مشكلة أنقرة كانت ولا تزال هي وجودها في مقدمة لوائح الدول الأعضاء في المجلس الأوروبي لناحية أرقام ومبالغ التعويضات الواجب دفعها للمتضررين بناء على قرارات المحكمة الأوروبية، وأنها في العام 2016 غرمت بمبلغ 21 مليون دولار، وأن هذا الرقم تراجع في العام المنصرم إلى حوالي 14 مليون دولار.
أوروبا تتحدث عن أهمية الشراكة الاستراتيجية مع أنقرة، وتقول إن «تركيا ستكون أقوى بمجتمع موحّد ووسائل إعلام حرة وحوار دائم ومفتوح بين المجتمع المدني والقادة "، و"تبدي مخاوفها بشأن العدد الكبير من الصحفيين والأكاديميين الذين لا يزالون محتجزين في تركيا"، وأنقرة تطالب أوروبا دائما بوقف الدفاع عن "منخرطين في نشاطات تستهدف إسقاط الحكومة التركية المنتخبة ديمقراطياً"، وتتمسك بالدوافع السياسية لا القانونية التي تتحكم في قرارات محكمة حقوق الإنسان. لكن ميزة القرار هذه المرة هي أنه الأول من نوعه الذي يدعو للإفراج عن سجين بسبب تأخر محاكمته بغض النظر عن التهم الموجهة إليه من قبل المدعي العام.
فريق الدفاع عن دميرتاش بدأ منذ الآن يردد أن هدف البعض للخروج من مشكلة القرار الأوروبي هو التلويح بتسريع ملفات محاكمات أخرى ضده في محاكم التمييز والحكم عليه بالسجن فيها، وبذلك يتم تجاوز العقبة الأوروبية، لكن القناعة هي بوجود أزمة ثقة حقيقية تتفاقم بين الطرفين: المقربون إلى الحكم يقولون إن الإفراج عن دميرتاش يعني تقديم تنازلات لصالح "الإرهاب" في تركيا، وأصوات قانونية تركية معارضة، بينها الرئيس الأسبق لنقابة محامي إسطنبول تورجوت قازان، تقول إن عدم تنفيذ القرار قد يعرض تركيا لتجميد عضويتها في المجلس الأوروبي، وتذكر بأن الرئيس التركي أردوغان نفسه ذهب إلى المحكمة أكثر من مرة وأعطته ما يريد، وأن المحكمة الدستورية التركية لو تدخلت تجاه معالجة هذه المسألة لما وصل الأمر إلى المحكمة الأوروبية.
كل طرف سعيد بما وصل إليه.. السلطات السياسية التركية التي تقول إنها التحقت بالمؤسسات الأوروبية منذ مطلع الخمسينيات لتكون جزءا من المعايير السياسية والاجتماعية والقانونية هناك، وأوروبا التي ترى أنها قبلت بجلوس تركيا إلى جانبها لتلزمها بتغيير نهجها ومسارها الفكري والاجتماعي والسياسي، وتلتزم بما تقوله وتريده هي. فمن هو التعيس إذاً؟ ربما آلاف المواطنين الأتراك الذين فشلوا في رهانهم على محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وربما المواطن الأوروبي الذي يتساءل: لماذا يلزم هو وحده بتطبيق القرارات ولا يتهم مؤسساته بالتسييس وازدواجية المعايير والحكم المزاجي؟
وسط كل هذه النقاشات هناك مشكلة أخرى لا يتطرق إليها أحد في تركيا، وهي رفض محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أكثر من مرة وحتى الآن الأسماء المقترحة رسميا لتمثل تركيا في مقعد المحكمة، بعد انتهاء فترة مشاركة الحاكم الحالي منذ أواخر أبريل العام المنصرم، لأسباب تتعلق بالمعايير والمواصفات الأوروبية المطلوبة بشأن من يريد تسلم مثل هذه المناصب.
المسألة بدأت تناقش بشكل آخر على مستوى بعض الأقلام التركية المعارضة، البعض في تركيا يدافع حتى النهاية عن حقوق الإعلامي السعودي القتيل جمال خاشقجي، ووصل إلى حد المطالبة بتحريك مؤسسات المجتمع الدولي، لكنه في موضوع المواطن التركي دميرتاش يذهب بمنحى آخر ويتهم محكمة ستراسبورج بتسييس الملف والقضية، والكيل بمكيالين، ويدعو لعدم تنفيذ القرار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة