اعتزال إخوان الجزائر.. استحالة يكبلها التسلط والولاء للخارج
خبراء يؤكدون بأن عدم امتلاك الإخوان لجرأة الاعتزال يعود إلى مرضها بالزعامة وارتباطها بأجندات الدولة العميقة وأنظمة إخوانية.
تكشف تفاصيل التجربة السياسية في الجزائر، خصوصاً منذ إقرار التعددية السياسية عام 1989 أن القاموس السياسي لجماعة الإخوان لا يتحمل مفهوم "الاعتزال السياسي" الغائب والمغيب عنه، عكس بقية التيارات والإيديولوجيات السياسية.
حتى إن المتابعين للشأن السياسي في هذا البلد العربي، "عجزوا عن تفسير ظاهرة تشبث" القيادات الإخوانية بالعمل السياسي، كمال قال المحلل السياسي الدكتور عامر رخيلة لـ"العين الإخبارية"، رغم "تاريخهم المتخم بالهزائم الانتخابية والنكسات والخيبات والارتباك والإفلاس والتشرذم".
- جزائريون ردا على انتقاد الإخوان لمسودة الدستور: تُبخر أحلامكم
- إخوان الجزائر بعد بوتفليقة.. أيتام تائهون وأقنعة تتساقط
وهي نتيجة حتمية – يقول المتابعون - لتخندقهم في أسوأ أنواع الممارسات السياسية التي يغلب عليها الانتهازية والشعبوية و"الاستغلال القذر" للقضايا السياسية والاجتماعية العادلة، وحتى "الولاء لأنظمة إخوانية تدعم الإرهاب وللتنظيم العالمي للإخوان".
ويقول المراقبون أيضا إن إخوان الجزائر أنتجوا "مفهوماً جديدا" في العمل السياسي، بعد أن بات "عدم الاعتزال" "ظاهرة سياسية في حد ذاتها تختص بهم" أفرزت ما يسميه الجزائريون "ديناصورات سياسية ترفض الانقراض" ولا تقبل بلعبة الديمقراطية حتى داخل تياراتها، وتعوضها بالارتماء في أحضان السلطة تارة وركوب مطالب الشارع تارة أخرى.
في وقت يعتبر الاعتزال هو الظاهرة في الدول والمجتمعات التي تقبل بقواعد الديمقراطية في حالات الفوز أو الخسارة.
ويفسر المحلل السياسي حميدة العياشي جانباً من ذلك "التناقض في واقع الإخوان بين الإفلاس والتشبث بالوهم ورفض الإقرار بالهزيمة" من خلال الحراك الشعبي الذي كان أكبر اختبار لـ"خطاب وشعبية ومواقف" التيارات الإخوانية.
حيث قال في تصريح لـ"العين الإخبارية" إن هذه التيارات "وجدت نفسها على جانب الحراك الشعبي، ولم تستطع حتى عندما انطلقت الحركة الشعبية عجزت عن إعادة النظر في خطابها، وعجزت أيضا عن إعادة النظر في آليات عملها السياسي، وظهرت عاجزة كذلك على استثمار نسقها من خلال استقطاب جزء من المجتمع، وبالتالي كانت على هامش الحراك طوال 9 أشهر".
الجرأة السياسية
وتشرح قواميس السياسة "الاعتزال السياسي" على أنه تنحٍ عن مناصب القيادة وصناعة القرار بعد سنوات من النضال، ونوع من الانتقال الديمقراطي السلس بين الأجبال، و"جرأة سياسية" تضمن لصاحبها "حسن الخاتمة سياسياً"، فيما تختلف دوافعه بحسب البيئة السياسية، كما ذكر أكاديميون لـ"العين الإخبارية".
وتنحصر الأسباب في الحالة الجزائرية في تقدم السن أو "انتهاء المهمة" أو "الاقتناع باستحالة التغيير" أو "قناعة بضرورة فسح المجال للأجيال الصاعدة" أو "إقرار بالهزيمة والفشل".
وسبق للكثير من الشخصيات السياسية في الموالاة أو المعارضة ومن مختلف المشارب السياسية بالجزائر أن أعلنت انسحابها من العمل السياسي، كان آخرها علي بن فليس الرئيس السابق لحزب "طلائع الحريات" المعارض عقب خسارته الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة، وعز الدين ميهوبي الأمين العام السابق بالإنابة لحزب "التجمع الوطني الديمقراطي".
وقبل ذلك، سجل التاريخ السياسي في الجزائر اعتزال شخصيات سياسية ثقيلة، بينها الراحل حسين آيت أحمد مؤسس حزب "جبهة القوى الاشتراكية" ومولود حمروش رئيس الوزراء الأسبق، والرئيس الجزائري الأسبق اليامين زروال، وأحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية الأسبق.
واللافت، أن كثيرا من تلك الشخصيات المعتزلة والتي فضلت الخروج من "أشرف" الأبواب، كانت محل "ثقة شعبية واسعة" بعد أن طالبتها بأن تقود المرحلة الانتقالية خلال الأزمة السياسية التي مرت بها الجزائر في 2019، وطالبت بعضَها بالترشح للانتخابات، ورأت فيها "منقذاً للجزائر".
وقال المحلل السياسي حميدة العياشي في تصريح لـ"العين الإخبارية" إن التيارات الإخوانية "لا تحمل الصدقية ولا تحمل الطابع الأخلاقي الذي يسمح لها بالتعبئة والتجنيد، ومعظمها قبلت بلعبة النظام والانتخابات، ودخلت البرلمان الذي لم يكن لديه يوم مصداقية، وفضلت التموقع داخل لعبة النظام التي جرتها لأن تكون مثلها مثل بقية الأحزاب المرفوضة شعبياً والتي لا أثر لها على توجهات الناس وعلى مجريات الواقع".
رفض شعبي
مشهد ظهر مغايراً مع القيادات الإخوانية التي "عمّرت طويلا" في المشهد السياسي، ووجدت نفسها بعد عقود "فارغة من القواعد الشعبية" كما كانت "جوفاء من البرامج السياسية"، بل و"مرفوضة وملفوظة ومطرودة ومنبوذة ومطالَبة بالرحيل".
ولعل ما حدث للتيارات الإخوانية في الحراك الشعبي الذي خرج منتفضاً في 22 فبراير/شباط 2019 على "الطغمة الحاكمة وحاشيتها وسياساتها" كان "البرهان على صدق التوقعات والحقائق" التي حاولت جماعة الإخوان دحرها، وزعمت لسنوات بأنها "قوة ضاربة في الشارع الجزائري"، "هددت بها السلطة لتكون طريقها المعبدة نحو الاستيلاء على قصر المرادية الرئاسي".
من تعرض الإخواني عبد الله جاب الله رئيس ما يعرف بـ"جبهة العدالة والتنمية" الإخوانية مع حاشيته للطرد من قبل المتظاهرين، إلى الإخواني أبو جرة سلطاني الرئيس السابق لما يعرف بـ"حركة مجتمع السلم" الإخوانية، الذي وجد مصيراً أسوأ حينما ذهب إلى باريس، ولم يلبث أن خرج من مظاهرة للجزائريين تحت الضرب ووابل من الشتائم للإخوان.
أما خلفه الإخواني عبد الرزاق مقري فقد نسج "أغبى السيناريوهات" على حد وصف النشطاء، عندما "تظاهر بالتظاهر حيث لا يوجد تظاهر"، سرعان ما كشفه وفضحه رواد مواقع التواصل، ونشروا صوراً أثبتت أن "مظاهرة مقري ومن معه" لم تكن وسط المتظاهرين، بل بالقرب من مقر الحركة الإخوانية "البعيد تماماً" عن شوارع وساحات التظاهرات.
وفي كل خروج إخواني لتسلق الحراك نحو السيول البشرية الغاضبة والمطالبة بالتغيير الجذري، وجدت قياداتها صراخاً شعبياً موحداً ولافتات "ترفض أي دور لهم وتُحملهم مسؤولية الخراب السياسي الذي حل ببلادهم مع نظام بوتفليقة"، وباتت تلك المسيرات "محاكمة شعبية علنية للتيار الإخواني".
الحراك عرّى وعزل الإخوان
وأكد حميدة العياشي المتخصص في الجماعات المسلحة سنوات التسعينيات بالجزائر في حديثه لـ"العين الإخبارية" بأن "الحراك الشعبي خرج خارج حسابات مختلف الأحزاب ومن بينها التيارات الإخوانية، فقد عرّاها وأظهرها على أنها فاقدة على التأثير، وهي كانت تراهن في البداية بالدرجة الأولى مع سيناريوهات النظام أو محاصصة النظام أكثر من مراهنتها على القوى المشكلة للحراك".
ويرى متابعون أن الحراك الشعبي فرض على التيارات الإخوانية الجزائرية "ما يشبه الاعتزال الإجباري" وقال عنها "ما لم تجرؤ على قوله جماعة الإخوان وتمسكت بإخفائه" وهو "إفلاسها وانهيارها السياسي" وفق المتابعين.
لكن النتيجة كانت منسجمة مع أطماعهم وأهوائهم وهي "لا حياء لمن تنادي" كما علق جزائريون عبر منصات التواصل، وظلت متمسكة بالظهور في المشهد "مرتبكة ومتشرذمة" بين التملق وعرض خدماتها للرئيس تبون، وتسجيل المواقف المعارضة في بعض القضايا "الجانبية".
تباعد سياسي
ويقول الجزائريون إن "العُمر الإخواني" لعبد الله جاب الله في المشهد السياسي أكبر من فترة حكم بوتفليقة للجزائر، ومع ذلك لم يجد حرجاً في الخروج ضد بقائه في الحكم، والإخواني مقري الذي "اختلطت عليه أقنعة المواقف"، يعدان "ظاهرة نادرة في التشبث بالظهور واجترار السياسة" في الجزائر.
وبالعودة إلى مسار الإخواني جاب الله، فإن "عمره الإخواني" قارب 46 سنة، بينها 30 سنة في العمل العلني، حيث كان أول من رفع شعار تنظيم الإخوان في الجزائر عام 1977.
وفضح الانفتاح السياسي في الجزائر منذ 1989 نظرة وممارسة التيارات الإخوانية لمفهوم "الديمقراطية التشاركية" حتى داخلها، وكان الإخواني جاب الله "أكبر نموذج للتباعد السياسي بين جماعة الإخوان والديمقراطية"، حتى إنه الوحيد الذي "فرّخ 3 تيارات إخوانية" نتيجة "عشقه للزعامة" وفق تصريحات وشهادات من كانوا معه.
حيث أسس في سبتمبر/أيلول 1990 ما عرف بـ"حركة النهضة الإسلامية"، وعقب خسارته في انتخابات الرئاسة 1999 ثار عليه نوابه في البرلمان نتيجة الهزائم المتلاحقة التي مُني بها قبل ذلك في الانتخابات التشريعية والمحلية، وقرروا نزع صلاحياته من الحركة.
ليعلن في العام ذاته تأسيس تيار إخواني جديد كان "حركة الإصلاح الوطني"، ثم ما لبث أن وقع في خلافات مع قياداتها عقب الانتخابات النيابية في 2004، بحجة "منافسة نوابه في البرلمان على زعامة الحركة" الإخوانية.
لم يتقبل الإخواني عبد الله جاب الله بروز أسماء في الساحة السياسية من تياره، فقرر الانسحاب منه في 2007 "بدل الاعتزال"، ليؤسس في يوليو 2011 ما يعرف بـ"جبهة العدالة والتنمية" التي دعت صراحة في بيانها التأسيسي إلى "أخونة المجتمع".
وأكد خبراء جزائريون لـ"العين الإخبارية" بأن فتح نقاش عن خروج جماعة الإخوان عن قاعدة الاعتزال السياسي "ليس بالأمر الهين"، كونه يحتاج – وفق تصريحاتهم – إلى "دراسات أكاديمية وسوسيولوجية" لفهم وفك شيفرة التركيبة الفكرية المعقدة لهذه الفئة.
فيما أكدت شهادات خصوم الإخواني جاب الله، بأن مسيرته المليئة بالتغيرات مردها "رغبته الجامحة في تصدر مشهد الزعامة في التيارات الإخوانية"، وبأنه واحد من القيادات الإخوانية "صاحبة الرؤى المنفردة والمحدودة والضيقة".
جهل لقواعد الديمقراطية
وفي تعليقه، أوضح المحلل السياسي محمد دلومي أن التيارات الإخوانية "تعيش وضعاً شاذاً عن القواعد السياسية والديمقراطية، فلا هي سارت مع التحولات بعد الحراك ولا هي فهمت القواعد الديمقراطية، و كل هذا بسبب قيادات هذه الأحزاب التي صارت ترى في الأحزاب عقاراً يتم توريثه وليس كياناً سياسياً يتماشى مع متطلبات الشعب".
وأضاف في حديث مع "العين الإخبارية" أنه "في مقدمة رؤساء الأحزاب الإسلامية (الإخوانية) نجد عبد الله جاب الله، فهو مصاب بمرض الزعامة حتى صار يعتقد أنه لا إسلام بدونه ولا أحزاب إسلامية اذا لم يكن هو قائدها، الرجل شخصيته معقدة وقصر نظره السياسي جعلت من قاعدته الحزبية تنقلب عليه في كل مرة، ومع كل مرة يؤسس تياراً يكون هو القائد فيه".
اختفاء "قسري"
ويعتقد "دلومي" بأن حالة الأفلاس السياسي التي وصلت إليها ما يعرف بـ"جبهة العدالة والتنمية" الإخواني أجبرت "زعيمها" الإخواني عبد الله جاب الله على الاختفاء عن المشهد.
وأشار بأنه "باع موقفه للنظام السابق قبل الحراك الشعبي، وكان عين الجنرال توفيق (رئيس جهاز المخابرات الأسبق) الذي كان الرجل القوي في العقدين الماضيين، وبقي جاب الله رغ سجن الجنرال وفياً له من خلال مواقفه الداعية إلى مجلس تأسيسي".
مضيفاً أنه "كان أيضا الانتخابات الرئاسية لكن بعد انتخاب عبد المجيد تبون كان من الذين تمت دعوتهم للرئاسة للتشاور، وبعد خروجه أدلى بتصريحات تناقض كل مواقفه السابقة، ليدخل بعد ذلك في صمت لم يخرج منه إلى الآن".
وعن بقية التيارات الإخوانية التي توصف بـ"المجهرية" أوضح المحلل السياسي بأن "كل همها هو البقاء في المشهد، لكنها رهنت بقائها ببيع مواقفها للقوي الذي يمكن أن يزيد في عمرها السياسي".
ولاء للخارج
بيد أن متابعين للشأن السياسي في الجزائر، يضعون جملة من الأسباب التي تدفع جماعة الإخوان إلى "الكفر بفكرة الاعتزال"، أبرزها ما يتعدى حدود الجزائر.
ويذكر المتابعون ما كشفته مختلف التقارير الإعلامية المحلية في العقد الأخير عن "الارتباط الوثيق بين تيارات إخوانية جزائرية وأنظمة إخوانية" في إشارة إلى النظامين القطري والتركي.
ويقول المراقبون، إن القيادات الإخوانية التقليدية تخضع لمهمات وأجندات مشبوهة "ممولة مادياً ومدعومة سياسياً" أوكلت لها من الدوحة وأنقرة، "زادت من قناعتهم باستحالة الاعتزال السياسي".
وإذا كانت الدوحة "بنكاً لتيارات إخوانية جزائرية" فإن أنقرة "هي عاصمتهم المركزية التي تُصنع فيها قرارتهم" وفق المتابعين.
حتى إن الإخواني عبد الرزاق مقري سوّق لمبادرة "التوافق الوطني" من اسطنبول في آب/أغسطس 2019 خلال محاضرة ألقاها في مركز دراسات "تركيا والعالم الإسلامي" حول "واقع الأمة العربية والإسلامية والرهانات المستقبلية".
والتي مهدت لمفاوضاته السرية مع السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة بهدف التمديد له سنة أو سنتين على أن يعطي للحركة الإخوانية دور رئيسي في شؤون الدولة بينها تشكيل الحكومة و"ضمان الأغلبية البرلمانية" وفق ما جاء في نص الرسالة السرية التي بعث بها لقيادات الحركة الإخوانية، واطلعت "العين الإخبارية" على تفاصيلها.
وفي المحصلة، فإن تاريخ جماعة الإخوان في الجزائر كشف وفق العارفين بالشأن السياسي الجزائري عن أن ارتباط بعضها بـ"الدولة العميقة" وتواطؤ أخرى مع النظامين التركي والقطري وفق أجندات باتت مكشوفة لـ"إقامة نظام إخواني في الجزائر".
بالإضافة إلى تمسكها بـ"غريزة الزعامة" و"شهوة الاستيلاء على الحكم" كلها عوامل تجعل 'الاعتزال أبغض الحلال السياسي عند الإخوان إلى حد تحريمه"، وأن "الولاء لدول أخرى وخيانة الأوطان أهون لها من الاعتكاف في أوكارها" وفق قراءات المراقبين.
وشدد المحلل السياسي محمد دلومي في ختام تصريحه لـ"العين الإخبارية" على أن التيارات الإخوانية في الجزائر "ليست ضحية نظام في واقع الحال، لكنها ضحية نفسها وضحية قيادة فاقدة للأهلية السياسية ومريضة بحب القيادة وتعيش على أوهام الجماعة والبيعة، وهذا ما جعل الأحداث تتجاوزها".