على المرء أن يتسلح بكثير من السذاجة، بل بكثير من التغابي، ليصدق ما أعلنته قطر من أن التصريحات التي بثتها وكالة الأنباء الرسمية للدولة كانت نتيجة قرصنة إلكترونية طالت إلى جانب موقع الوكالة حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي التي بثت التصريحات ذاتها.
على المرء أن يتسلح بكثير من السذاجة، بل بكثير من التغابي، ليصدق ما أعلنته قطر من أن التصريحات التي بثتها وكالة الأنباء الرسمية للدولة كانت نتيجة قرصنة إلكترونية طالت إلى جانب موقع الوكالة حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي التي بثت التصريحات ذاتها.
والحقيقة أن ما كان متاحًا لدى دول مجلس التعاون من رصيد "التغافل" عن ممارسات قطر قد نفد تمامًا، وأن مخزون الحلم والصبر تبدّد، وأن الصدور التي اتسعت زمنا طويلًا لاستيعاب العبث القطري الضار قد ضاقت بما رأت من استمراء الشقيقة الصغيرة اقتراف الأخطاء والخطايا، غير مدركة لعواقبها.
تبدو تصريحات أمير قطر متسقة مع مواقف بلاده، ومع السياقات السياسية والإعلامية خلال الفترة الأخيرة. ويبدو أنه أدرك خطأ حساباته حين فوجئ بقسوة الردود إعلامياً وسياسياً
بوضوح، فإن التصريحات التي نشرتها الوكالة تمثل الموقف القطري بدرجة كبيرة، بمعنى أن القول يتسق مع الفعل، وإنْ كانت الأفعال في الحقيقة أكثر إيغالا في العداوة، وأفدح ضررًا على المصالح الخليجية في ظرف دقيق تتصاعد فيه التهديدات والمخاطر بصورة غير مسبوقة. أي أننا لسنا إزاء تصريحات خارج سياق السياسة القطرية أو توجهاتها.
بالقدر نفسه، فإن هذه التصريحات جاءت تتويجًا طبيعيًا لحملة محمومة يشنّها الإعلام القطري على دول الخليج مؤخرا، ولا سيما الإمارات والسعودية والبحرين. والصحف والقنوات المحلية القطرية تؤدي دورًا في هذه الحملة، لكنها تترك جزءًا كبيرًا منها "لقناة الجزيرة" التي صعّدت إساءاتها خلال الشهر الأخير، كما تضطلع بجزء آخر أكثر عنفًا ووقاحة وفجورًا وسائلُ إعلام تمولها قطر وتُسخرها كاملة للطعن والتشكيك والتشويه ومحاولة الإيقاع بين الإمارات والسعودية في وقت تخوض فيه الدولتان حربًا ضارية ضد محاولات نشر الفوضى والاضطراب واختراق أمن الخليج التي تهدد الجميع، بمن فيهم قطر ذاتها.
هذه التصريحات جاءت تتويجاً طبيعياً لحملة محمومة يشنها الإعلام القطري على دول الخليج مؤخرا، ولاسيما الإمارات والسعودية والبحرين
لم تكن تصريحات أمير قطر خارج سياق تعامل الإعلام القطري والمموّل قطريًّا مع تصدي قوات الأمن البحرينية -ليلة صدور هذه التصريحات- لإرهابيين يحاولون ضرْب الاستقرار وهدْم الدولة وتقويض مؤسساتها، حيث سعى هذا الإعلام إلى تصدير صورة مشوَّهة ومسيئة لسلطات البحرين وللقوى الأمنية التي تقدم شهيدًا تلو شهيد في المعركة التي تديرها إيران عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا.
ليست تغطية الأحداث في البحرين التي تخدم إيران بعيدة عما ورد في تصريحات أمير قطر التي قال فيها إن إيران "قوة كبرى تضمن الاستقرار في المنطقة"، وهو ما يمثل تجاهلًا صارخًا للحقائق الدامغة، وشقًّا للصف الخليجي، وخروجًا على الإجماع لا يمكن تجاهله أو السكوت عليه فترة أطول.
تصريحات الأمير أيضًا لم تكن خارج سياق "قمة الرياض" مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقد أدرك الأمير أن السياسة القطرية تسببت فيما يشبه الاستبعاد أو النبذ لرموزها، وأن معظم الحاضرين في القمة من قادة الدول العربية والإسلامية نقلوا إليه هذا الشعور، وهو ما قاده إلى محاولة تحريك هذا الموقف بالذهاب بعيدًا في إطلاق التهديدات الصريحة والضمنية، لعلها أن تغيّر وضعا يضيق فيه الخناق عليه، فجاءت هذه التصريحات لتجرب تكتيك "حافة الهاوية" الذي تمارسه إيران بشكل دائم، ويبدو أن الأمير يستمد كثيرًا من تكتيكاته من مخزون الخبرة الإيرانية هذه الأيام.
من كل الوجوه، تبدو تصريحات أمير قطر متسقة مع مواقف بلاده، ومع السياقات السياسية والإعلامية خلال الفترة الأخيرة. ويبدو أنه أدرك خطأ حساباته حين فوجئ بقسوة الردود إعلاميًا وسياسيًا، ووجد أن ما ظنّه مخاطرة محسوبة يتحول إلى مصيدة غير مأمونة العواقب، ولذا كانت حيلة الاختراق المزعوم للمواقع القطرية حلًا لجأ إليه مكرهًا. ولا ريب في أن ردود الفعل الإعلامية السريعة، كانت ترافقها ردود فعل سياسية خليجية عبر قنوات لم تظهر للناس بعد، وهو ما جعل قطر تكتفي من الغنيمة بالإياب، ومن العنترية بادعاء الاختراق.
موقف وزير الخارجية القطري الذي هدد بسحب السفراء من دول عربية وخليجية عدة (الإمارات والسعودية والكويت والبحرين ومصر) لم يكن بعيدًا عن ذلك، وإذا كانت الإدارة القطرية للأزمة قد عالجت مأزق التصريحات بادعاء الاختراق، فإنها بحثت عن تخريجة أخرى لتصريحات وزير الخارجية، لتجد ضالتها في أن هذه التصريحات قد "أُخرجت عن سياقها"، و"جرى تحريفها". وليس من الصعب أن نلاحظ أن مضمون تصريحات الأمير ووزير الخارجية واحد، مما يدل على أن ما حدث كان يعكس توجهًا منسقًا تم الاتفاق على الإعلان عنه بقوة، قبل أن ينكص المعلنون على أعقابهم بعد أن اتضح لهم حقل الأشواك الذي وجدوا أنفسهم فيه.
تصريحات الأمير تتسق مع دعم قطر للفوضى في كثير من الدول العربية، وفي استهداف كيان الدولة العربية كما تحاول قطر أن تفعل في مصر، وفي دعمها الإرهاب قولًا وفعلًا وتمويلًا، وما رعايتها للإخوان المسلمين ودعم جهودهم التخريبية في كثير من الدول العربية إلا نموذج لذلك. ولا يتوقف الأمر عند الإخوان، بل يمتد ذلك إلى جماعات تابعة لـ"داعش" أو "القاعدة"، موجودة في سيناء أو في ليبيا التي شكا مواطنوها مرارًا من أن السلاح القطري هو العنصر الأول وراء استمرار العنف والقتل والفوضى السياسية والعسكرية، وأن تدخلات قطر هي ما يحول دون استقرار ليبيا وأمنها وأمانها.
ليست المرة الأولى التي تمارس فيها قطر هذه الألعاب، لكن الوضع الآن مختلف، ولعل قطر قد أدركت من طبيعة الردود أمس واليوم أن قواعد اللعبة قد تغيرت. ولقد تلقت قطر نصائح مستمرة من قادة مثل صاحب السمو الشيخ محمد زايد آل نهيان، ومن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، ومن الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، تغمده الله برحمته، لكنها كانت تضرب بهذه النصائح عُرض الحائط، والأسوأ أنها كانت تبذل الوعود تلو الوعود، ثم تنكث بها دون تردد، وهي ممارسة لم تعرفها العلاقات الخليجية التي يلعب احترام الكلمة واحترام الذات والوفاء بالتعهدات من جانب القادة دورًا كبيرًا فيها.
لدى قطر اختياران لا ثالث لهما، أولهما هو الاصطفاف تحت مظلة الإجماع العربي والخليجي، وإيقاف الدعم السياسي والمالي والفكري والإعلامي للجماعات الإرهابية، وإغلاق منابر الكراهية والأبواق التي تسيء إلى دول الخليج وتثير الفتن والأحقاد، والمساهمة في التصدي لخطر الاختراق الإيراني بدلًا من مغازلة إيران ومساعدتها على تنفيذ مؤامراتها. وهذا الخيار يجلب للمنطقة الاستقرار والأمن، وهو ما ستستفيد منه قطر وشعبها الشقيق الذي لا نبغي له إلا الخير.
والاختيار الثاني، هو مواصلة الدور التخريبي التآمري وإثارة المشكلات وتعميق الخلافات والصراعات، ولكن ذلك لن يمر دون رد، بعد أن تجاوزت قطر كل الخطوط الحمر، وتجاهلت خطورة الوضع الذي نمر به، ولقد عاينت قطر نموذجًا لذلك في الردود على التصريحات التي تسعى الآن للتبرؤ منها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة