الواقع الاقتصادي المصري يشهد تحديات غير مسبوقة نتيجة للأزمات الدولية من حروب وجوائح صحية، ولكن التفكير العميق يقودنا إلى أن التحدي الحقيقي هو تحدٍّ أخلاقي، منبعه أخلاق طبقة التجار والمستوردين ورجال الأعمال..
وهذا التحدي قديم في مختلف المجتمعات وهو الأصل والأساس في تفجير الأزمات، فقد ربط عبدالرحمن بن خلدون المتوفى 1406م، بين قيم المجتمع وأخلاقياته، وبين الازدهار الاقتصادي، والاستقرار السياسي للدول؛ فقد اعتبر أن قيم المجتمع وأخلاقياته هي العامل الوحيد الذي يحدد مصير النظام السياسي والدولة برمتها.
واعتبر أن المجتمع الذي يتمسك بالأخلاق النبيلة والصدق والأمانة والشهامة والتضحية من أجل الآخرين هو المجتمع القادر على إنشاء دولة فتية ناهضة قادرة على حفظ وجودها ورفاهية شعبها، أما المجتمع الذي تسوده قيم الاستهلاك والأنانية، والكسل والتراخي، وهيمنة الشهوات، والاستغلال والفساد والاحتكار فهو مجتمع مهدد بالانهيار، بل إن انهياره لا محالة حادث، ووضع ابن خلدون مجموعة من القوانين الاجتماعية مثل "إن الترف مؤذن بخراب العمران"، ومثل "الظلم مؤذن بخراب العمران"، والعمران عند ابن خلدون يقصد به الازدهار الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي والقوة السياسية التي تؤسس الحضارة بما تشتمل عليه من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية وعمرانية وثقافية.
وبالنظر إلى واقع مصر اليوم، وما تشهده من محاولات جادة للنهوض الاقتصادي في جميع المجالات؛ تقوم بها الدولة في ظل وضع دولي غاية في التعقيد والصعوبة، لا يقدم الفرص بل يفرض الضغوط والتحديات، وعلى الجانب الآخر نجد أن الواقع القيمي والأخلاقي في المجتمع المصري في وضعه الحالي لن يسمح بانطلاق نهضة اقتصادية حقيقية، لأنه مجتمع، في غالبيته العظمى، لا يؤمن بالخير العام، ولا يوجد لمفهوم المصلحة العامة موقع في ثقافته، كل شيء "سبوبة"، حتى وإن تمت تغطية ذلك بحجج شديدةٍ من الشعارات الوطنية، هذا مجتمع ضرب الخراب في العهود السابقة منظومته القيمية في الصميم، وأقصد هنا القيم الجماعية والفردية التي تتعلق بالفعل الحضاري، والإنتاج الاقتصادي.
مصر تحتاج إلى ثورة أخلاقية متزامنة مع النهضة الاقتصادية، وإلا فإن كل ما سيتم بناؤه مصيره معروف، فبدون تغيير أخلاق المجتمع والفرد، لن تقوم في مصر نهضة اقتصادية حقيقية، ولن تشهد مصر تنمية اقتصادية تخرجها من حالة الركود والتخلف التي عاشتها طوال العقود الأربعة الماضية، وهذه النهضة الأخلاقية لن تتحقق إلا إذا شاركت فيها جميع أجهزة صنع الوعي في مصر من الحضانة إلى الجامعة، ومن المسلسل والفيلم إلى خطبة الجمعة، ومن البرامج التلفزيونية إلى الإعلانات الضوئية على الطريق.
المجتمع المصري يحتاج إلى أن تتحول خطب الجمعة، وبرامج التلفزيون والمسلسلات إلى تعليم الناس قيم النظافة بالمعنى الذي يعرفه العالم، وليس بالمعنى المصري، وتعلم الناس خطورة الغش في البضائع على حياة الآخرين، وأن الغش مثل القتل، بل هو قتل حقيقي، وتعلمهم خطورة الكذب والتدليس، وتعلمهم أن المال الحرام كارثة.
مشكلة مصر المزمنة في تجارها، فعلى أيديهم تفشل أي محاولة لإصلاح أحوال المصريين ورفع المعاناة عن كاهلهم، ما إن تتسرب شائعة عن زيادة في الدخول، أو ارتفاع في سعر العملات الأجنبية، خصوصاً الدولار الأمريكي، إلا ويرفعون الأسعار بنسبة تزيد دائماً على نسبة الزيادة في المرتبات والمعاشات والدخول، وتزيد كذلك على التغيير الحادث في سعر الجنيه المصري أمام الدولار، يفعلون ذلك دون أي مبرر اقتصادي، إلا الجشع اللامتناهي، والطمع اللامحدود، لذلك لن تنجح أي حكومة في مصر بدون لجم هذا الطمع وذاك الجشع.
تجار مصر يظلمون المصريين ظلماً مزدوجاً، وأحياناً ثلاثي الأبعاد، فهم يشترون إنتاج الفلاحين، والصناع بثمن بخس، وبهامش ربح يعادل ثلاثة أو أربعة أضعاف الثمن الذي تم دفعه للمنتج الذي قضى شهوراً في عملية الإنتاج، ثم يبيعون نفس البضاعة بدون أي إضافة من تصنيع، أو تغليف، أو وقاية صحية بأربعة أضعاف الثمن الأصلي، وقد يشتريها المنتج نفسه بذلك السعر، ثم هم يستوردون أسوأ ما في العالم من بضاعة، وأسوأ منتجاته، ليبيعوها لهذا الشعب المظلوم بأسعار فوق طاقته، يطوفون الدنيا بحثاً عن أكثر السلع رداءة ليستوردوها، بل يستوردون أطعمة منتهية الصلاحية، أطعمة الكلاب، أو لحوم الوحوش والضواري لشعبهم، وأبناء مجتمعهم، وأهلهم، كل ذلك من أجل الثراء، والمتعة من دم الفقراء، وعلى حسابهم، حالة من التوحش الإنساني، من أجل شاليه في الساحل الشمالي، أو سيارة، أو حساب بنكي متضخم.
من الصعب أن تتحقق أي محاولة للإصلاح الاقتصادي، أو العدالة الاجتماعية، أو رفع مستوى معيشة الإنسان المصري، أو نقل أكثر من نصف الشعب المصري من حد الفقر إلى ما فوقه بدون القضاء على هذه الظاهرة السلبية في مجتمع التجار المصريين، وذلك بتقليل عدد التجار الوسطاء بين المنتج والمستهلك، ووضع ضوابط لعلاقة التجار بالفلاحين، ووضع ميثاق شرف اقتصادي يحدد الحد الأقصى لهامش الربح في كل أصناف التجارة، وفي كل الخدمات، وقد يستلزم ذلك إنشاء نقابات لكل فئة من التجار ولكل فئة من المنتجين، بحيث تكون النقابات هي المؤسسات الضابطة لهذه الأنشطة، وهي التي يناط بها تحقيق العدالة، ورفع الظلم عن جميع الأطراف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة