وأدق مثال على ما أقول كوريا الجنوبية وسنغافورا وماليزيا، التي كانت ديكتاتورية، وانتهت بالديمقراطية.
يقولون: ليست الأنظمة الديمقراطية هي الأفضل على الإطلاق، لكنها أفضل الأنظمة السياسية نسبياً، وهناك من يتواضع أكثر ويقول: هي - على الأقل - أفضل الأنظمة السيئة حتى الآن.
وفي تقديري أن القضية تحتاج قبل أن نقبلها أو نرفضها إلى إضاءات على جوانبها المختلفة، ولا يمكن حسب التجارب الإنسانية لتاريخ الديمقراطية، إطلاق الأحكام على عواهنها.
الديمقراطية هي بلا شك أفضل الأحصنة التي تقود عربة المجتمع، نحو العدل والمساواة بين الأفراد، وحماية حرياتهم واستقلالهم الفردي، غير أن المجتمع الذي هو هنا بمثابة العربة التي يجرّها الحصان، يجب أن تكون صالحة ومهيئة عجلاتها كي لا تلقي بهم في الهاوية.
أية ديمقراطية، لا تبدأ من التعليم وتحرير الفرد من أغلال الموروثات، وترسيخ الفردانية، لن تؤدي إلا إلى مزيد من التفكك والتطاحن وغياب ما هو أهم من الديمقراطية، إنه (الأمن والاستقرار). وخير مثال على ما أقول ديمقراطية العراق.
والسؤال الذي يطرحه السياق هنا : هل كل مجتمع من المجتمعات، صالح بالضرورة لنجاح (أي) تجربة ديمقراطية، أم أنه يحتاج أولاً إلى أن يكون كأفراد، ومفاهيم، ومبادئ، وقيم، مهيئاً لأن يتعامل مع الديمقراطية بمسؤولية. فالديمقراطية هي بلا شك سلاح قوي وفاعل، تستطيع به المجتمعات (الناضجة) الدفاع عن نفسها، وعن تلاحمها، وقيمها، لكن الفرد في المجتمع إذا لم يكن ناضجاً، واعياً، فإنه سيكون كالطفل الذي تمكنه من هذا السلاح، فيقتل به نفسه أو يقتل به غيره؛ بمعنى آخر فهي تحتاج من حيث المبدأ، وقبل كل شيء، إلى (الفرد الواعي)، والمستقل، وأن يكون على قدر معقول من العلم والمعرفة، الذي يمكنه من اتخاذ قراره بحرية حسب قناعاته، حتى وإن كانت هذه القناعات نابعة من مصالحه الشخصية.
أما إذا كانت (الفردانية) بمعناها الشامل ضعيفة، أو غائبة، أو مُغيّبة، أو أن هناك ضغوطاً اجتماعية أو قبلية أو مذهبية، تفرض على الفرد أن يكون بمثابة الخروف في القطيع، هنا فإن آلية الديمقراطية لا يمكن أن تحقق المراد منها، بل قد تؤدي بالمجتمعات إلى النزاعات والحروب الأهلية، أو قد (تصبح) معايير الأكثرية والأقلية، سبباً لتسلط وظلم الأقلية، بالشكل الذي تنفرد فيه بالسلطة والثروة، الأمر الذي تصبح فيه الديمقراطية أداة تخلّف وتدمير لا تنمية وتطوير وتعمير.
لذلك، وأقولها بملء فمي، إن التنمية الشاملة، التي من شأنها أن تحرّر الإنسان من أغلال وقيود المجتمعات الماضوية، كالقبلية والطائفية مثلاً، هي النقطة التي يجب أن تبدأ الشعوب المتخلفة منها لكي تواكب الأمم المتحضّرة، وهنا يأتي التعليم في عملية تهيئة الفرد للتعامل الإيجابي مع الديمقراطية بمثابة حجر الأساس، فجميع الدول التي كانت في الخمسة أو الستة عقود الماضية متخلفة، ثم انطلقت إلى عالم التقدم والتحضر، وبالتالي رفاهية إنسانها، واستقرار وأمن مجتمعاتها، ابتدأت بالتعليم.
وأدق مثال على ما أقول كوريا الجنوبية وسنغافورا وماليزيا، التي كانت ديكتاتورية، وانتهت بالديمقراطية.
مشكلة الغرب، أنه يتجاوز الإجابة على أهم سؤال في هذه الشؤون، وهو هل الشعوب التي تحثونها بكل السبل على اعتناق الأنظمة الديمقراطية، قادرة من حيث مفاهيمها وموروثاتها التراثية على أن تتعامل مع المفاهيم والمبادئ الديمقراطية بالشكل الذي يوفر لها الأمن والاستقرار، وبالتالي التنمية الاقتصادية؟..
في تقديري أن الإجابة على هذا السؤال المحوري هي: لا.
وهناك من يريد أن يغيِّر مجتمعاتهم المتخلفة بالقوة نحو الديمقراطية، ويرددون: لا حل لإنجاح الديمقراطية إلا بمزيد من الديمقراطية، دون أن يلتفتوا إلى تخلف إنسان هذه المجتمعات، وتمسكه بموروثاته، التي تنسف الديمقراطية من أساساتها ومسلماتها.
كل ما أريد أن أقوله هنا، إن أية ديمقراطية، لا تبدأ من التعليم وتحرير الفرد من أغلال الموروثات، وترسيخ الفردانية، لن تؤدي إلا إلى مزيد من التفكك والتطاحن، وغياب ما هو أهم من الديمقراطية، إنه (الأمن والاستقرار). وخير مثال على ما أقول ديمقراطية العراق.
نقلا عن "الجزيرة السعودية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة