منذ أن تذوقت حلاوة اكتشاف كنوز التراث في مكتبة رفاعة الطهطاوي في مدينة سوهاج عام 1985.
ولا يزال يلازمني شغف البحث عنها وفيها؛ مدفوعاً بإحساس عميق بالجهل الكبير بما هو موجود في تراثنا الغني الواسع الرحيب، وفي الأسبوع الماضي وأثناء البحث في خزائن المخطوطات الألمانية، وقعت على مخطوط لطبيب مصري من أكابر رجال الكنيسة القبطية المصرية كان حيًّا في عام 1288م، عنوانه "نصيحة المحب في ذم التكسب بالطب" تأليف إبراهيم بن يوحنا الوجيه القليوبي الطبيب.
والوجيه القليوبي من رموز الكنيسة القبطية ورجالها المعروفين بشروحهم للأناجيل، وأعمال الرسل، وكتب اللاهوت المسيحي، وله كتاب ظريف في تعليم اللغة القبطية، عنوانه "الكفاية"، كتبه باللغة العربية مع بعض الكلمات القبطية، عاقدا مقارنات لغوية حول بنية الجملة، وتراكيب الكلمات والإعراب بين اللغة القبطية واللغة العربية. وقد عاش القليوبي في عهد السلطان المملوكي الخليل بن قلاوون الذي حكم مصر حتى 1291م، وكان من أعظم حكام المماليك؛ حيث أعاد فتح عكا والشام ودخل إلى رومية وأرمينيا وطهر منطقة الشام والأناضول من بقايا الدويلات الصليبية، وبنهاية عهده انتهى وجود الحملات الصليبية في المشرق العربي.
وعلى عادة كُتّاب تلك العصور -مسيحيين ومسلمين- تبدأ مخطوطة الوجيه القليوبي: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الدايم البقاء، العالي على الفناء، الغني عن الأشياء، المرتدي بالجلال والكبرياء، دافع الأدواء، وواهب الشفاء، ومبين أسباب الصحة لمن يشاء من الأحياء، نحمده، وهو المحمود وحده على السراء والضراء، ونسبحه وهو المُسَبح طوعاً وكرهاً ممن في الأرض والسماء، وبعد فإني والحمد لله منذ أن بلغت رشدي لم تحن إلى غير العلوم نفسي....".
الوجيه القليوبي رجل دين قبطي متمسك بدينه، ولكن طريقة الكتابة في زمانه كانت تتبع نمطا معينا لا بد أن يلتزم به كل من انتسب إلى طائفة أهل العلم بغض النظر عن دينه وعقيدته، وفي مخطوطه عن تعليم اللغة القبطية يستخدم كلمات مشابهة لمقدمة كتابه "نصيحة المحب في ذم التكسب بالطب"، ولم يكن هناك من يفرض أو يلزم أحدًا أن يكتب بطريقة معينة، ولكنها لغة العلم في ذلك الزمان.
بل نجد أنه في داخل المخطوط يستشهد بآيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية شريفة تدعم حجته، وتقنع بقضيته، وتخاطب جمهوره باللغة التي يفهمها، والحجة التي يقتنع بها. إنها لمحة من تاريخنا وتراثنا الغني الذي شارك في إثرائه جميع البشر الذين عاشوا على هذه الأرض بغض النظر عن خلفياتهن الدينية أو العرقية أو اللغوية.
يقسم الوجيه القليوبي كتابه إلى قسمين: القسم الأول في ذم التكسب بالطب من حيث آثاره المدمرة في الدنيا على الطبيب الذي يفعل هذا من حيث ذهاب أخلاقه، ونقصان مروءته، وتأثير ذلك على عقله وقدراته، وفقدان البركة من يديه، وعدم نفع علاجه في الكثير من الحالات بفعل فقدان البركة، القسم الثاني يتناول آثار التكسب بالطب على حال الطبيب في الآخرة، من حيث فقدان الثواب، وكثرة الذنوب والمعاصي التي يحصلها بفعل الأخطاء التي يرتكبها في حق مرضاه، والظلم الذي يصيبهم إذا امتنع عن علاج من لا يملك أجره.. إلخ.
المخطوط يقع في 375 صفحة، جميعها في تخصصات الطب المختلفة، فهو بجانب التركيز على البعد الأخلاقي الذي يمثل جوهر الفكرة لديه، يقدم معلومات طبية للمتدربين من الأطباء، وكأن الكتاب دليل تدريبي لتكوين طبيب أخلاقي يحصل على المعرفة الطبية اللازمة ليكون طبيبا ماهراً؛ وذلك بجانب المكون الأخلاقي الذي يجعل الطب مهنة نبيلة لا تسعى للتكسب وجمع المال.
كان الدافع وراء تقديم هذا المخطوط الحالة التي يعيشها العالم اليوم مع انتشار هذا الوباء، وزيادة عدد الأطباء الذي ضحوا بحياتهم من أجل إنقاذ حياة مرضاهم، أولئك الذين قدموا نموذجا ومثالاً حيًّا لما ينبغي أن يكون عليه الطبيب أو الحكيم كما كنا نطلق عليه في مصر، وما زال يسميه كذلك أهلنا في لبنان، وحاجة العالم إلى أن تعود مهنة الطب إلى ما كانت عليه مهنة النبالة، والحكمة، والإنسانية الراقية.
ولكن تحقيق ما نادى به الوجيه القليوبي منذ أكثر من سبعة قرون يحتاج إلى تدخل الدولة من خلال الاستثمار المكثف في الصحة ومؤسساتها، وأن تقوم الدولة بتقديم خدمة طبية على مستوى من الجودة والكفاءة والإتقان يحفظ حياة الناس، ويحفظ كرامتهم كذلك، وإذا نجحت الدولة في تحقيق ذلك فلن يكون هناك وجود للتعامل مع الطب والصحة والعلاج كمجال للاستثمار والربح وتكوين الثروات، ومن ثم لن يكون هناك قطاع خاص في الطب، وفي الصحة والعلاج، وإنما يكون كل هذا المجال أول وأهم وظيفة للدولة، تضمن من خلاله حياة كريمة للأطباء وكل العاملين في المجال الصحي تجعلهم يترفعون عن التكسب بالطب.
وهذا ليس بالأمر الغريب أو الجديد فالدول الاسكندنافية على سبيل المثال توفر هذا لمواطنيها، وكذلك توفره بريطانيا بدرجة كبيرة وكذلك روسيا وقبلها الاتحاد السوفييتي، ومصر فيما قبل عصر الانفتاح، ومن ثم يمكن أن يتحقق في مصر المستقبل القريب.
تحية وتهنئة لأقباط مصر بجميع مذاهبهم، وتحية خاصة للسيد الدكتور مجدي يعقوب الذي التزم بنصيحة أخيه الطبيب إبراهيم يوحنا الوجيه القليوبي، ولم يتكسب بالطب، وقدم أروع نموذج في هذا العصر للطبيب الإنسان النبيل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة