لقد فطنت الإدارة المصرية الجديدة لمسألة تعزيز العلاقات الخارجية لمصر لا سيما في نطاق الاتحاد القاري وعملت على تعزيزه منذ اليوم الأول
من الطبيعي أن تقرر مصر أن تنافس على رئاسة الاتحاد الأفريقي وتصل إلى سدة الرئاسة.. فما تحتله من مكانة دولية وإقليمية تؤهلها لأن تتولى رئاسة الاتحاد الذي يضم في عضويته خمسة وخمسين دولة، ولكن المميز في الأمر أن هذه الخطوة اتخذت مكانها الصحيح في وقت وجيز، بالنظر لطبيعة العلاقات بين مصر ودول الاتحاد في العقود الماضية، والتي كانت توصف بالفاترة في أفضل حالاتها حتى تاريخ ليس بالبعيد -قبل خمس سنوات تقريبا- حين كانت مصر بعيدة عن أفريقيا، الأمر الذي دفع دول القارة للتصويت في مجلس السلم والأمن الأفريقي لتعليق عضويتها في الاتحاد الأفريقي لمدة عام، ثم رفع ذلك التعليق بعد تحرك رسمي جاد من قبل الإدارة المصرية، بدأ على الصعيدين السياسي والدبلوماسي. وأحسنت مصر توظيفهما لإثبات جدية الرغبة في ممارسة حقها في التعاون بفاعلية مع الأشقاء في القارة.
لعل الحظ يحالف مصر في هذا العام في أفريقيا، فما تقدمه على الصعيد الدبلوماسي من جهود كبيرة ما زال ينقصها جانب واحد مهم ألا وهو القوة الناعمة التي ربما تكون بذات مستوى أهمية الجهود الدبلوماسية والاقتصادية المبذولة
أعقبت ذلك التحرك خطوات موازية لا تقل أهمية عما بذل دبلوماسيا وسياسيا، فانخرطت مصر في مشاريع استثمارية جادة في عدد من الدول الأفريقية من شأنها تقديم خدمات وفرص عمل لأبناء تلك الدول. فضلاً عن استضافتها مؤتمرات اقتصادية واجتماعات ومعارض تجارية أفريقية إضافة لمشاركتها في مؤتمرات أخرى في دول القارة.
هذه الخطوات العملية كان من شأنها تعزيز الموقف المصري داخل القارة الأفريقية، فتم انتخابها لرئاسة الاتحاد الأفريقي لعام 2019 وفي ذلك الكثير من الرسائل ومنها تأكيد دول القارة أهمية ومكانة مصر بينها، كما أنه نوع من الاعتذار المعنوي لخطوة تعليق العضوية التي تم رفعها بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد بعشرة أيام في 2014. علاوة على ذلك، فقد جاء هذا الانتخاب ليؤكد على جدية وفاعلية خطط الإدارة المصرية في سياستها الخارجية؛ في الوقت الذي أعلنت عنه مصر بأنها ستعمل على تعزيز علاقاتها بمحيطها الإقليمي بموجب خطة معلنة دون أن تتأثر بما تحمله على كاهلها من عبء إصلاحات اقتصادية داخلية منهكة، من شأنها أن تدفع البلاد للتركيز نحو الداخل على حساب العلاقات الخارجية.
لقد فطنت الإدارة المصرية الجديدة لمسألة تعزيز العلاقات الخارجية لمصر لا سيما في نطاق الاتحاد القاري وعملت على تعزيزه منذ اليوم الأول كعامل رئيسي من عوامل إعادة بناء اقتصاد مصري حقيقي متحرر من قيود أرهقته عقودا من الزمن، عبر خطتين داخلية وخارجية.. تتقاطعان في النهوض بالاقتصاد المصري وهذا ما أنهك مصر في العقود الماضية حين تراخت فيما يلي علاقاتها بأشقاء القارة.
هناك الكثير من التحديات الحقيقية التي تواجه مصر منها دفعُ الاندماج الاقتصادي بين دول القارة، إيقافُ النزاعات، الجواز الأفريقي الموحد، إيجاد حلول عملية لمحاربة الفقر، توفير فرص عمل، تفعيل حلول تنموية حقيقية وأفرقة حلول مشكلات القارة وتمثيل القارة الأفريقية في مجلس الأمن بشكل عادل وغيرها من الملفات لتضع خلال هذا العام النقاط على الحروف ولعلها الأقدر بين أشقائها في أفريقيا على إيجاد مقاربات جريئة ومرنة بما لديها من إمكانات وخبرات مكنتها من التعافي الاقتصادي بعد حالة انهيار شهدها اقتصاد البلاد قبل أعوام.
ويمكن في هذا الصدد إنشاء هيئة استشارية تحت مظلة الاتحاد تعنى باستقطاب الكفاءات العلمية "الشابة" من أبناء القارة تكون مهمتهم تصميم تشريعات لتحقيق كل الخطط الإيجابية والتطلعات المستقبلية التي يعلقها أبناء القارة على اتحادهم. كما يمكن أن تشرع اللجان المعنية في البرلمان الأفريقي بإيجاد تشريعات هدفها القضاء على الفساد الإداري، وتعزيز معايير الحكم الرشيد. ولتكن البداية عبر إيجاد مؤشر للشفافية على غرار المؤشرات الدولية. ويمكن لمصر أن تتبنى هذين المقترحين المتواضعين ضمن حزمة الحلول التي تعتزم العمل عليها مع الشركاء في القارة خلال 2019.
سبعة عشر عاما هو عمر الاتحاد الأفريقي الذي حل محل منظمة الوحدة الأفريقية، انتظرت خلالها المجتمعات الأفريقية أن يغدق عليهم هذا التكتل في شكله الجديد من خيراته بشكل عملي على غرار تكتلات سبقته كالاتحاد الأوروبي والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. لكنه ارتبط نشاطه بمخلفات الاستعمار وظل منحصراً في التنظير للحالة السياسية لدوله الأعضاء ووضع بعض المعاهدات التي لم يصادق كثير من دول الاتحاد عليها، مع المحافظة على مستوى ضئيل من الثقة المتبادلة بين أعضائه لا سيما بين المنطقة الشمالية وبقية أعضاء المناطق الأربعة -بحسب التقسيم الإداري لدول الاتحاد- حيث كانت اهتمامات دول الشمال بعيدة عن شقيقاتها الجنوبية.
ولكن اليوم فقد تعززت حالة الثقة بين أعضائه بشكل جعلهم يدركون أن القوة تكمن في الاتحاد الحقيقي والاعتماد على أنفسهم بدلاً من الاعتماد على العلاقات الثنائية بين بعض الدول الأعضاء وبعض الدول العظمى والتي ما زال بعضها يحتفظ ببعض الأطماع الاستعمارية في علاقاته ببعض دول القارة.
لعل الحظ يحالف مصر في هذا العام في أفريقيا، فما تقدمه على الصعيد الدبلوماسي من جهود كبيرة ما زال ينقصها جانب واحد مهم ألا وهو القوة الناعمة التي ربما تكون بذات مستوى أهمية الجهود الدبلوماسية والاقتصادية المبذولة والتي ستكون من بينها، في رأيي المتواضع، فإنها -أي القوة الناعمة- عوامل تسريع تلك الجهود وتثبيتها وفتح قنوات موازية داعمة لها ولا يخفى على أحد مدى ارتباط القوة الناعمة بتدفق السياحة في جميع الاتجاهات وانتعاش اقتصادات قائمة على سوق السياحة.
شخصيا آمل أن تكون بطولة أمم أفريقيا 2019 التي تقرر إقامتها في مصر نقطة انطلاق متقدمة في مضمار القوة الناعمة.. تماما كمن يحرز نقاطا في سباق رياضي فيمنح أولوية لينطلق في المرحلة التالية من نقطة متقدمة ليحافظ على صدارته. وبطبيعة الحال فإن البطولة القارية سيكون لها نصيب الأسد في تصدير صورة إيجابية لأشقاء القارة وبالتالي استقطاب أسواق جديدة لقطاع السياحة المصري في حال نجاح الموسم الكروي القاري.. ولا بد من اقتناص هذه الفرصة الثمينة التي أتت على طبق من ذهب وتوظيفها بطريقة تمكنها من استدامة فعالية قواها الناعمة الأخرى التي تمتلكها مصر طوال العام وأعني الفن والإعلام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة