ما يبدو على أنه سوف يقود إلى صراع مصري إثيوبي يمكنه أن يكون نقطة انطلاق للتنمية المشتركة بين مصر والسودان وإثيوبيا.
تاريخيا فإن طرقا كثيرة سارت فيها رحلات السلام بين الأمم وتجنب الحرب وتنمية البشر، أولها قام بالأساس على الإخضاع وتدمير كل القوي الأخرى المناوئة أو المنافسة. وما عرف في التاريخ باسم "السلام الروماني" أو "السلام البريطاني" أو "السلام الأمريكي" قام على هذا التصور.
فمع وجود هيمنة من قوة عظمي كبيرة فإن المنهج في التصرف يكون واحدا، وتقوم فيه قوة ردع كبيرة عصية على الخروج وعالية الثمن ساعة المقاومة بإقامة السلام ووضع الحدود وفقا لما تراه.
وفي أحيان يكون العالم إقليما بعينه، وما كانت محاولة نابليون للاستيلاء على أوروبا في القرن التاسع عشر، وهتلر في القرن العشرين، إلا محاولتين في هذا الاتجاه حيث تجري محاولة إخضاع القوي المنافسة، وفي الحالتين كان إخضاع بريطانيا وروسيا "أو الاتحاد السوفيتي" هدفا رئيسيا لكي يقوم نظام على شاكلة القوة المهيمنة.
وثانيها "توازن القوي" وهو ما أعطي أوروبا قرنا من السلام "انتهاء الحروب النابليونية 1815- وبدء الحرب العالمية الأولي 1914" نتيجة الحفاظ على توازن القوي بين القوي الأوروبية المختلفة: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية. توازن القوي في هذه الحالة سواء كان بين دول أو تحالفات دول يجعل ثمن السيطرة صعبا وغاليا.
وثالثها السعي لكي يكون العالم مثله مثال الحال في الدول القومية، فيكون القانون الدولي وتفريعاته في قوانين البحار والأنهار والأجواء وحتى في الفضاء خارج الكرة الأرضية وعلى الأرض ذاتها حيث لا يوجد دول في القطبين الشمالي والجنوبي، والمنظمات الدولية مثل عصبة الأمم والأمم المتحدة تقوم بالتشريع والحكم فيما يمنع تهديد الأمن والسلم الدوليين، وما يمكن أن ينقذ العالم من المشكلات المهددة للجنس البشري من أول الفقر والتمييز العنصري وحتى الاحتباس الحراري ومؤخرا جائحة كوفيد19.
ورابعها أن تعتمد الدول على بعضها البعض من خلال التعاون الكثيف في مجالات شتى إلى الدرجة التي تجعل الحرب مستحيلة بينها. وربما كان عالم العلاقات الدولية "جوزيف ناي" هو الذي أشار إلى أن الحرب باتت مستحيلة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية لأن الاعتماد المتبادل بينهما وصل إلى الدرجة التي تجعل الحرب ضارة للغاية بكلاهما "تحاربت كندا التي كانت تحت التاج البريطاني مع الولايات المتحدة في عام 1812 حيث غزا الجيش البريطاني واشنطن وأحرقها"؛ كما ضربت الأمثال باستحالة الحرب بين فرنسا وألمانيا بعد أكثر من قرن من العداء والحروب نتيجة ظهور الجماعة الأوروبية ومن بعدها الاتحاد الأوروبي.
ما يبدو على أنه سوف يقود إلى صراع مصري إثيوبي يمكنه أن يكون نقطة انطلاق ليس فقط للتعاون بين دول حوض النيل، وإنما للتنمية المشتركة بين مصر والسودان وإثيوبيا.
الأزمة المصرية الإثيوبية بخصوص نهر النيل مرت بمراحل متعددة أولها ما كان قبيل نشوب "الربيع العربي" عندما جرت العديد من المباحثات والمفاوضات والبيانات المشتركة ما بين القيادات الإثيوبية المتعددة والقيادة المصرية وانتهت في عام 2008 عندما اتفقت الدولتان على قيام إثيوبيا ببناء سد على النيل الأزرق له سعة تخزينية قدرها 14 مليار متر مكعب من المياه.
ولكن مع الاضطرابات التي جرت في مصر بدأت أديس ابابا في وضع تصورات أخري لسدها وصلت مع أبريل 2011 إلى أن تكون السعة التخزينية 74 مليار متر مكعب وهو الوضع الذي يهدد حصتي المياه لدولة الممر السودان ودولة المصب مصر.
وعلى مدي عقد من السنوات جرت مفاوضات متعددة بعضها ثنائي ضم البلدين، وبعضها ثلاثي ضم الدول الثلاث، ومؤخرا جرت مفاوضات ثلاثية برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي تارة، ثم برعاية رئاسة الاتحاد الإفريقي وبحضور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ورغم ظهور نوبات من التفاؤل من وقت إلى آخر في هذه المفاوضات، إلا أن إثيوبيا تمسكت أولا باعتبار السد من أعمال السيادة التي تجعل مياه النيل من الثروات الطبيعية الإثيوبية؛ وثانيا أن مصر تتحمل مسئولية الفقر والمجاعات الإثيوبية، بالإضافة إلى ندرة الكهرباء، كلها كانت نتيجة قيام دولة المصب مصر بالحصول على مياه النيل نتيجة اتفاقيات استعمارية؛ وثالثا أنه انطلاقا من الحقوق السيادية فإن نهر النيل ليس نهرا دوليا ومن ثم لا تملك الدول الواقعة عليه حقوقا تاريخية.
ورابعا كان التحرك الإثيوبي بين هذه الادعاءات هو ما عرقل المفاوضات لأن قاعدة السيادة لا تنطبق وفقا للقانون الدولي في أحواض الأنهار، وقواعد القانون الدولي المنظمة له، كما أن إثيوبيا كانت أكثر الدول الإفريقية استقلالا في تاريخها الطويل فهي لم تكن بلدا مستعمرا ولا محتلا إلا لفترة قصيرة خلال الحرب العالمية الثانية، وهي دولة المنبع الذي لم تتحكم فيه مصر يوما ولا كانت مسئولة بأي شكل عن الفقر أو المجاعات الإثيوبية التي تولدت كلها لأسباب إثيوبية بحتة.
وبعد أكثر من عشرة آلاف عام من التاريخ المعروف فإن مصر أقامت حضارة تليدة على نهر النيل حتى بات معروفا بها.
وقت كتابة هذا المقال كانت المفاوضات لا تزال جارية بعد تسليم الدول الثلاث لتقاريرها عن المفاوضات إلى رئاسة الاتحاد الإفريقي.
ورغم إعلان إثيوبيا أنها قد بدأت عمليات ملء الخزان، فإنها عادت بعد ذلك لكي تتراجع عن الإعلان. وبينما يستمر هذا الشد والجذب فإن الأمر كله ربما يحتاج إلى دفعة لا تعيد الأطراف إلى نقطة البداية وإنما تضع القضية كلها في إطار مشروع تاريخي إقليمي للتعاون والاعتماد المتبادل.
ولما كانت إثيوبيا تعلن أحيانا وتلمح أحيانا أخرى أن مصر تحاول منع إثيوبيا من التقدم وتوليد الكهرباء والطاقة اللازمة لتصنيع إثيوبيا ومن ثم تنميتها الشاملة فإنه ربما تكون تلك زاوية تحتاج إلى إيضاح. والحقيقة التي لابد من تسجيلها بوضوح هي أن مصر لم تعترض أبدا على سعي إثيوبيا لتوليد الكهرباء، وأن جوهر ما جري عليه من اتفاقات في واشنطن هو إعطاء إثيوبيا الفرصة لتوليد الكهرباء منذ الملئ الأول في صيف العام الحالي بعد توقيع الاتفاق الشامل بين البلدان الثلاث، وذلك من خلال تشغيل "توربينين" لإعطاء الشعب الإثيوبي الفرصة لمشاهدة عائد الاتفاق؛ في مقابل حصول مصر على حقوقها المائية، وعدم تعرضها لأضرار مجحفة وجسيمة.
يضاف إلى ذلك أنه من الممكن لمصر التي بات لديها تجربة عريضة في توليد الكهرباء من مصادر شتي، أقلها تلك التي تأتي من سد أسوان العالي الذي يقدم 8٪ فقط من الكهرباء المصرية، وتجربة كبيرة أخري في مد خطوط الكهرباء ليس فقط لتغطية الأرض المصرية كلها، وإنما مدها وتبادلها مع دول أخري بما فيها السودان والأردن والسعودية.
وفي الحقيقة أنه من الممكن لمصر المساهمة في مد الكهرباء ليس فقط إلى الداخل الإثيوبي حيث الكثافة السكانية العالية على الهضبة الإثيوبية، وإنما أيضا إلى السودان الذي يقع مباشرة في ملاصقة السد على الحدود الإثيوبية السودانية. وإذا كان "مجمع الحديد والصلب" الأوروبي شكل بداية التحرك نحو قيام الاتحاد الأوروبي، وفيما بعد المنظمة الأوروبية للطاقة النووية "يوراتوم"، فإن الكهرباء ومدها إلى إثيوبيا والسودان ومصر يمكنها أن تشكل حجر الزاوية في تعاون إقليمي يمتد إلى ما هو أكثر من ذلك في التجارة والصناعة والزراعة والثروة الحيوانية والمواصلات النهرية والطرق الممتدة عبر مصر إلي البحر الأبيض المتوسط.
باختصار فإن ما يبدو على أنه سوف يقود إلى صراع مصري إثيوبي يمكنه أن يكون نقطة انطلاق ليس فقط للتعاون بين دول حوض النيل، وإنما للتنمية المشتركة بين مصر والسودان وإثيوبيا وربما إرتيريا أيضا لوضع الأسس الاقتصادية لسلام دائم بينها وبين إثيوبيا.
هذا التجمع يمكنه أن يكون لبنة لتحقيق التنمية والأمن الإقليمي في القرن الإفريقي وحماية الإقليم من أخطار الإرهاب والقرصنة والملاحة في البحر الأحمر، في الوقت الذي تأخذ فيه الدول حقوقها التاريخية في مياه النيل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة